الزمن يغوص في كل جزئيات الكون، ويحسه كل مخلوق، فيتأثر به ويؤثر فيه، وهو لا ينفصل عن الطبيعة، ولا الكواكب، ولا الأحجار، ولا الأشجار … ولا عن الذرة، ولا الخلية … وهو حاضر في كل هؤلاء حضورًا أكيدا. وهو من جهة أخرى يسري في جميع سور القرآن وآياته وحروفه، تتذوقه أبسط العقول فهماً، وتتملاه أكبر العقول إدراكاً، وما ذلك إلا للاتساق بين القرآن وبين الكون، شكلاً ومضموناً، فهما من تأليف مؤلف واحد هو الخالق جلَّ علاه.
توجد دراسات معمقة في القرآن الكريم، وتوجد دراسات دقيقة في موضوع الزمن، وتكاد تنعدم الدراسات التي تهتم بالقرآن من مدخله الزمني، أو تدخل إلى الزمن من نافذته القرآنية
والقرآن الكريم لا يفرد لموضوع الزمن سوراً ولا آيات خاصة به، فهو يخالف بالتالي منهج الدراسات المعاصرة التي تؤلف خصيصاً لهذا الموضوع أو ذاك، وتعنون أبوابها وفصولها بعناوين تحمل دلالة زمنية مجردة، تفصل في ثنايا الكتاب تفصيلاً متسلسلاً وملتزماً بصلب ذلك الموضوع.بل هو يسري -أي الزمن- في القرآن الكريم، سريان الزمن في الوجود العظيم، ولا يختلف في هذا الحكم اثنان، ولكن الذي يستعصي على الأفهام هو تحديد حجم ونوعية تلك الكثرة والسعة، تماما كما يصعب على أرقى العقول تحديد مفهوم الزمن في الوجود، رغم سهولة الشعور به وإدراك أثره.
إن موضوع الزمن يستمد أهميته من أهمية الزمن نفسه، ولكن رغم ما له من بعد عميق في الفكر الإسلامي، نجد أن الدراسات حوله تبقى نادرة -إن لم نقل منعدمة-، وفي المقابل نجد أن الفكر الغربي قد أنتج دراسات وأبحاث لا تحصى في الموضوع.
يسعى هذا البحث العلمي ليلج موضوع الزمن من خلال المنظور القرآني، ذلك أنه “توجد دراسات معمقة في القرآن الكريم، وتوجد دراسات دقيقة في موضوع الزمن، وتكاد تنعدم الدراسات التي تهتم بالقرآن من مدخله الزمني، أو تدخل إلى الزمن من نافذته القرآنية”.
ومما يهدف البحث إلى تناوله، مثل هذه الأسئلة والإشكالات:
- ما مدلول الزمن في القرآن الكريم؟ وما حدوده وأبعاده؟
- كيف تناول القرآن الكريم الزمن في آياته؟ وبم تميز عن غيره في ذلك؟
- ما الخصائص التي يقدمها القرآن للزمن؟
- ما المجالات المعرفية التي يصل إليها تناول الزمن في القرآن الكريم؟
قبل الشروع في هذا البحث، وتقصي أجوبة الإشكالات يلزمنا أن نضع مسلمات نعتقدها، ولا نشك فيها طرفة عين، منها:
1 – إن الله تعالى هو الخالق للزمان وللمكان، فهو أعلم بهما من البشر مهما ادعوا وتبجحوا: [أَلَا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وَهوَ اللَّطِيفُ الخَبِير] الملك 14.
2 – إن الله سبحانه وتعالى لا يتزمن، وأي محاولة لدراسته من منظور زمني تعتبر محاولة فاشلة، لا فائدة تجني من جرّائها.
3 – إن القرآن الكريم هو المصدر الأول والوحيد للمفهوم الحقيقي للزمن، وبالتالي يجب علينا -نحن أهل القرآن- أن نحاول تدبر معانيه، والغوص في مبانيه، بغية الوصول إلى تحديد أولي لمفهوم الزمن في القرآن الكريم.
4 – إن للزمن عند الله قدرا عظيما، لأنه عز وجل أقسم به مرارا في القرآن الكريم، وفي الأحاديث القدسية ولا يقسم الله إلا بعظيم؛ وبالتالي ينبغي علينا أن ندرسه دراسة ترضي ربنا سبحانه، ونستفيد منه في معاشنا ومعادنا.
5 – إن كل ما سوى الله يدخل تحت سلطان سنن الكون، ومن هذه السنن: الزمن. وبالتالي فإن دراسته تعتبر جزءا من دراسة المخلوقات، والمعرفة به خطوة أساسية في التعرف عليه.”
ثمة سؤال منهجي ضروري جدا طرحه في مثل هذه الدراسات، إذا كان الهدف تحديد مفهوم مادة الزمن في القرآن الكريم فإنني بين خيارين لا ثالث لهما:
الخيار الأول: أن أتبنى منهجية من مناهج الدراسات الزمنية السابقة، فأوظف بالتالي مصطلحاته، ومنطقه، وأسلوبه … وفي هذه الحال يلاحظ كثرة المناهج والمدارس وتنوعها واختلافها، مما يصعب الانفراد بإحداها، وأصعب من ذلك وأخطر الجمع بينها والتوفيق بين اختلافاتها. ومن هذه المناهج نذكر:
- منهج علم الكلام، بما يحمله من إشكالات محددة ومسطرة.
- منهج الفلسفة، بشقيها الكلاسيكية والمعاصرة.
- منهج علم الفلك، ويلحق به علم التنجيم، وكذا علم المواقيت.
- منهج علم النفس، بنظرياته المعاصرة، وتقنياته المعقدة.
ولعل الذي يبعد هذه الخيار هو الخوف من الوقوع في مغبة إخضاع القرآن الكريم لنصوص أقل قيمة، ولا شك أن هذا السبيل لا يسمح لنا بالتأكد من وجود أو عدم وجود منهج قرآني قائم بذاته، وبالتالي نظلم القرآن من حيث نريد خدمته.
الخيار الثاني: وأمّا الخيار الثاني فيفرض نفسه عقلا ومنطقا، ويتمثل في دراسة موضوع الزمن ومنهجه من خلال القرآن نفسه، مع الاستعانة بمصطلحات ومناهج السابقين في شتى العلوم والفنون.
وهذا لا يتم إلا بتصور واضح لحجم المادة، قبل الوصول إلى تحديد الحكم، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولكي يتم التصور يتعين إجراء استقراء شامل -أو أقرب ما يكون إلى الشامل- من خلال دراسة واعية للنص القرآني، مع الاهتمام البالغ بفهم معاني الآيات ودلالة ألفاظها.
في ختام البحث وصلنا إلى نتائج تستحق أن تقرد كل منها بدراسات جادة وعميقة، إن على مستوى المنهج أو الأسلوب أو حتى على النتائج المعرفية التي اهتدينا إليها، ذلك أن الموضوع لا يزال متشعبا وغضا طريا، نذكر من بين المواضيع التي تم التطرق إليها في بحثنا -من غير ترتيب-:
القسم بالزمن | الزمن المبارك | زمن الأمم | البرمجة اليومية |
الله والزمن | زمن المعاملات | زمن الطبيعة | التأريخ |
مراحل العمر | زمن الموعد | زمن العبادات والأحكام | التقويم |
المقادير الزمنية | الزمن النسبي | زمن الكون | الحركة في الزمن |
زمن الملائكة والجن والعوالم الأخرى | الزمن النفسي | وعي الزمن | زمن الآخرة |
= العنوان: مفهوم الزمن في القرآن الكريم.
= المؤلف: د. محمد باباعمي.
= دار النشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت/لبنان.
= الطبعة: الأولى – سنة 2000.
= عدد الصفحات: 366.