أوَّل ما يستوقفنا من قصَّة الفتية، هو أنَّ الغاية مِن بعثهم أن “يتساءلوا بينهم”، وأنَّ التساؤل والحوارَ جاء في موضوع “تقدير الوقت الذي ناموا فيه” … قالوا: كم لبثتم؟
مقدار اللبث والنوم، بين القرآن الكريم والعلم الحديث:
حين يستيقظ الإنسان من نومه، قد تكون له قدرة على تقدير المدَّة التي نامها، وقد لا تكون له هذه القدرة؛ ولقد سميت هذه الظاهرة في القرآن الكريم بـ: “اللبث“؛ وجاءت على صيغة السؤال للفرد: “كم لبثت؟“، وللجمع: “كم لبثتم؟“؛ والسؤال طُرح في الدنيا في قصَّتين، هما: قصَّة أصحاب الكهف، وقصَّة الرجل الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها؛ وطُرح مرارا يوم القيامة على الناس، بخاصَّة على الكفَّار الذي أنكروا البعثَ.
وجاء الجواب نفسه في جميع هذه الحالات: ﴿قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم﴾، ﴿قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم﴾، أو بما يفيد دلالة “بعض اليوم” من مثله قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ (سورة النازعات: 46).
وقد أحال الدكتور سفيان بوستة إلى تجربة لفريقٍ علميٍّ يابانيٍّ، بعنوان: “تقدير الوقت خلال النوم الليلي: دراسة تجريبية” (Time Estimation During Nocturnal Sleep: An Experimental Study)، وأمدَّني بنسخة منها مشكورًا؛ وتبحث هذه الدراسة “في كيفية إدراك الدماغ البشري لمرور الوقت أثناء النوم الليليّ”؛ وقد انتهت التجارب السريرية إلى أنَّ “الدماغ البشري يمتلك القدرة على تقدير الوقت أثناء النوم الليليّ، دون الاعتماد على إشارات زمنيَّةٍ خارجيَّةٍ”، غير أنَّ لهذا التقدير عدَّة عوامل، منها “مرحلة النوم”، ذلك أنَّ من يوقَظ في مرحلة “النوم العميق” يكون له غالبا تقديرٌ مضطربٌ لمدَّة النوم؛ ومن يستيقظ في غيره له تقدير أكثر إيجابية؛ ومنها مكان النوم، هل هو مستقرٌّ أو متغيرٌ؟ ومنها وقتُ النوم، هل هو منضبطٌ أو مضطربٌ؟ … (وانظر المقال ملحقا).
أمَّا في القرآن الكريم فيخبرنا الله تعالى عن الفتية الذي لبثوا في كهفهم نائمين ﴿ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ ([1])؛ وذلك أنهم حين استيقظوا من نومهم في الكهف، جَرى بينهم هذا الحوار الشيق، قال عنه تعالى: ﴿وكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ، قَالَ قَآئِل مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ؟ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم، قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ... ﴾(سورة الكهف: 19).
وأوَّل ما يستوقفنا هو أنَّ الغاية مِن بعثهم هو أن “يتساءلوا بينهم”، وأنَّ التساؤل والحوارَ جاء في موضوع “تقدير الوقت الذي ناموا فيه”؛ ولذا طَرح الرازي سؤالاً جديرا وأجاب عنه، قال:
“فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟”
وكان جوابه عن السؤال الحواري الافتراضي العميق: “قلنا: لا يبعُد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمورٌ عجيبةٌ وأحوالٌ غريبةٌ، وذلك الانكشاف أمرٌ مطلوب لذاته” (مفاتيح الغيب).
ثم جاء التقرير المعهود عن مدَّة اللبث والنوم: “قالوا لبثنا يوما أو بعض يومٍ”. فما معنى هذا التقدير؟
قال المفسَّرون: “إنهم دخلوا الكهف غدوةً وبعثهم الله في آخر النهار، فلذلك قالوا لبثنا يومًا، فلمَّا رأوا الشمس باقية قالوا: أو بعضَ يومٍ”؛ وهذا تخريجٌ حسنٌ، لكنَّه لا يستند إلى دليل من نقل صحيحٍ، وإنَّما اقترح على عادة الناس في النوم والاستيقاظ، رغم أنَّ نوم الفتية كان آيةً ربانيةً، ولم يكن كنوم الواحد منَّا حالةً طبيعيةً؛ ثم إنَّ الذي لبث مائة عامٍ، أجاب بنفس الجواب؛ والناس بخاصَّةٍ الكفَّار يوم القيامة، لهم نفس الجواب؛ فهل يفيد هذا الجواب في الجمع بين هذه الحالات؟
ولقد رأى الفتية بعض العلامات التي تفند أنَّهم ناموا يوًما واحدا، أو بعض يومٍ، من الأيام الشمسيَّة الطبيعيَّة؛ وهذه العلامات هي من آثار مرور الزمن الطويل، مما لم يتوقف مرور الزمن عليه؛ وأرجّح أن يكون هذا التغيُّر فيما يحيط بهم، من حجرٍ وشجرٍ، وكذا الجدارُ الذي بني عليهم؛ وأنهم لم يتغيروا في ملامح الوجه، ولا في الشعر، والأظافر([2])… ولذا أحالوا الأمر إلى الله سبحانه، فقالوا، وقد نسب القول إلى قائدهم يمليخا: “ربكم أعلم بما لبثتم“. أي أنهم نفوا العلم بمدَّة اللبث، وأحالوا العلم إلى الله جلَّ جلاله.
وكذلك كان الشأن مع الرجل الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، إذ سأل سؤالا عن البعث: ﴿قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ؟﴾. فجاء الجواب من عند الله تعالى عمليًّا تجريبيًّا بالنسبة له وللبشر من بعده، قال تعالى: ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُۥ﴾ۖ.
ثم سأل الله تعالى الرجلَ السؤال نفسه الذي جاء عند الفتية: ﴿قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ؟﴾ وكان الجواب بنفس الصيغة، ونفس التقدير: ﴿قَالَ: لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم﴾.
وهنا اختلفت الثمرة وباقي الحوار، ففي سورة الكهف أحالوا العلم إلى الله سبحانه: ﴿رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ﴾، وفي سورة البقرة، صحَّح الله تعالى للرجل تقديره، وهو أعلم بما لبث، فقال: ﴿بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَام﴾ (سورة البقرة: 259). ثم أراه الأدلَّة واحدة تلو الأخرى، من جريان الزمن على حماره، حتى تحوَّل إلى عظام نخرة، وعدم جريانه على طعامه وشرابه، حتى إنه “لم يتسنَّه” ولم يفسُد ولم يتغير؛ وكأنَّ الطعام والشراب دخلا في “فجوة زمنية”، أمَّا الحمار فبقي داخل “تيار الزمن”، وانتهى عظاما نخرةً.
أمَّا حوار يوم القيامة، وسؤال الله تعالى للأشقياء والكافرين: “كم لبثتم؟” فكثير في القرآن الكريم، وقد ورد بصيغ مختلفة؛ ونحن نسوق مثالاً واحدًا في بحثنا هذا، وهو من سورة المؤمنون؛ حيث يقصُّ الله تعالى عن أهل الضلالة الذي كانوا يستهزئون بالمؤمنين ويضحكون منهم، أنه سبحانه جازى المؤمنين بالجنات، وجعل مصير المستهزئين النار؛ وقد سألهم سبحانه سؤال توبيخ وتقريع: ﴿قَٰلَ كَمۡ لَبِثۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ عَدَدَ سِنِينَ؟﴾
وجاء الجواب الفوريُّ منهم: ﴿قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡم﴾، وأضافوا إليه الإحالة إلى العادين، والاعتراف أنهم لا يعلمون ذلك علم اليقين، قالوا لله سبحانه: ﴿فَسۡـَٔلِ ٱلۡعَآدِّينَ﴾.
وما الحاجة إلى سؤال العادّين، والله تعالى خالق الزمان والمكان، وخالق الكون والإنسان، وخالق العقل والجنان، هو أعلم بما لبثوا، فكان التقرير منه سبحانه، وفيه توبيخ وتقريع: ﴿قَٰالَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلاۖ لَّوۡ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ (سورة المؤمنون: 112-114).
ما نسجّله في موضوع بحثنا، أنَّ تقدير الإنسان لمدَّة نومِه، في الحال الطبيعيَّة والسننيَّة، لا يتجاوز “يوما أو بعض يوم”؛ بل إنه لا يُعرف من يقدّر مدَّة نومه بثلاثة أيام مثلا، أو أسبوعٍ أو أكثرَ؛ هذا ما لاحظته من خلال قراءاتي، وأكَّد لي الدكتور بوستة أنه حتى في حالات الإغماء، والنوم السريري… وغيره مما يطول مدَّة فقدان الوعي فيه أكثر من يومٍ؛ فإنَّ صاحبه حين يستعيد وعيه، يقدّر نومه بيوم أو بعض يوم، ولا يُعرف من يقدره بأكثر من ذلك.
ولا ريب أنَّ تقدير مدَّة النوم مردُّه داخليٌّ، يحيله العلماء إلى الساعة البيولوجية؛ ولكن في الحالات الواردة في كتاب الله تعالى، تتجاوز الحادثةُ الحالات الطبيعيَّة السننيَّة، إلى طلاقة قدرة الله تعالى وكمال علمه؛ فلا أحد يقدر أن يبقى بدون نومٍ أكثر من أيام (انتهى بها البعض إلى شهر، وهو أقصى تقدير).
ولكن كم ساعةً يمكن للمرء أن يبقى نائمًا، أو فاقدًا للوعي، ثم يستيقظ ويباشر الحياة بحالة طبيعية؟([3])
المسألة للبحث، والمثالان في القرآن الكريم وصلا بمدَّة النوم إلى “مائة عامٍ”، وإلى “ثلاثمائة عامٍ”؛ وهذا خارج التجربة العلميَّة العاديَّة؛ إنه من أمر الله تعالى ومن آياته الكبرى، وهو مما وجب أن نؤمن به، لا مما نقدر أن نجرّبه؛ ولكنَّ الغاية من إيراد هذين المثالين هو الإحالة إلى البعث وأنه حقٌّ من الله تعالى؛ فإذا كانت هذه الحالات ممكنةً في الدنيا، فهي ولا ريب ممكنة ليوم القيامة؛ بل إنَّ الله تعالى ساق لنا هذا الحوار الشيق في سورة يس، عن الذي تعجَّب من إحياء العظام وهي رميم: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ (سورة يس: 78). فأجابه تعالى بحجَّةٍ لا غبار عليها: ﴿قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ… فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡء وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ (الآيات 79-83).
د. محمد بن موسى باباعمي
مكتبة مسجد محمد الأمين، مسقط، عُمان
الأحد 04 ذو القعدة 1445ه/12 ماي 2024م
[1] – ينبغي التنبيه إلى أنَّ الصيغة القرآنية “ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا”، عوض “تسع سنين وثلاثمائة”، أو “ثلاثمائة سنة وتسع”؛ قد تشير إلى الفارق بين التاريخ الهجري والميلادي؛ فبالتقدير الميلادي يكونون قد لبثوا ثلاثمائة سنة، وهو ما يساوي بالهجري ثلاث مائة وتسع سنين.
وقد ردَّ الرازي هذا التوجيه، وقال: “فإن قالوا: لم لم يقل ثلاثمائة وتسع سنين؟ وما الفائدة في قوله ” وازدادوا تسعا؟” قلنا: قال بعضهم: كانت المدة ثلاثمائة سنة من السنين الشمسية، وثلاثمائة وتسع سنين من القمرية، وهذا مشكل لأنَّه لا يصح بالحساب هذا القول” (مفاتيح الغيب)؛ وسبحان من لا يسهو ولا يغفل، كيف تسرَّب الخطأ إلى الإمام الرازي، وقال: “إنه لا يصح بالحساب”، والحال أنه صحيح لا غبار عليه.
ولقد حرَّر الإمام ابن عاشور المسألة، وأبان عن مصدر هذا التفسير وصوّبه، وبيَّن الحكمة من التأريخ بالنظامين الشمسي والقمري، فقال: “والمعنى: أن يقدَّر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين. فعُبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع، ليُعلم أنَّ التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام، مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القومِ الذين منهم أهلُ الكهف، وهم أهل بلاد الروم. قال السهيلي في “الروض الأنف”: النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به. وأقول: واليهود الذين لَقّنوا قريشاً السؤالَ عنهم يؤرخّون الأشهر بحساب القمر، ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية، فالتفاوتُ بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كلّ ثلاث وثلاثين سنة شمسيةً، فيكون التفاوتُ في مائة سنة شمسيةٍ بثلاث سنين زائدة قمرية. كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسّر. وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد. وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به” (التحرير والتنوير).
[2] – في سبب الرعب الذي يتملك من يطلع على الفتية في الكهف، ورد في التفاسير رأيان نقلهما الرازي، قال: “”ولملئت منهم رعبا” أي فزعا وخوفا؛ قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيامٌ، فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوبا، وقيل: إنه تعالى جعلهم بحيث كلُّ من رآهم فزع فزعا شديدًا” أي أنَّ السبب غيبيُّ، وهو آية من آيات الله ليس لها تفسيرٌ مما يعلمه الناس؛ ولقد أحسن الإمام حين ختم كلامه بالتسليم لله وقال: “فأمَّا تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به” (مفاتيح الغيب).
[3] – طرحت أسئلة على الأساتذة والأطباء والباحثين، وهي: كم هي أقصى مدَّة ينامها الإنسان ثم يستيقظ في حالة عادية؟ وكم هي أقصى مدَّة يبقى فيها الإنسان بلا نوم؟ وكم هي أطول مدَّة للإغماء أي للموت السريري عرفت طبيا؟ فأجاب الدكتور سفيان بوستة: “في هذا المجال ترد كثير من المبالغات، التي لم تخضع للملاحظة العلمية؛ وما يعرف علميا، هو أنَّ أقصى مدَّة للنوم المتواصل كان 11 يوما، مع مصاعب صحية ظهرت على الطفل الذي نام كلَّ هذه المدة؛ وكذا أقصى ما عرف علميا من مدَّة اليقظة بلا نوم هو 11 يوما تقريبا؛ وله آثار صحية خطيرة؛ وحالة الإغماء والموت السريري والإغماء بسبب حادث سيارة، يذكر أنَّ امرأة إماراتية اسمها منيرة عبد الله بقيت في هذه الحالة 27 سنة، وبعد الاستيقاظ عرفت ابنها وقد كبر في عمره؛ وكذا امرأة كندية اسمها أني شابيرو، بقيت ثلاثين عاما في الإغماء، من عمر الخمسين إلى عمر التاسع والسبعين عاما”.