إن الزمن نهر عميق، يقطع الوجود بنظام وتوأدة واستمرار، كل الناس يسبح فيه حسب استعداده وقدرته وطاقته؛ غير أن من الناس مـن يصل إلى بر الأمان، ومنهم من يدركه العرق بعد فوات الأوان.
فأيما إنسان وعى زمنه، وتناغم معه، فهو إنسان متحضر راق؛ وأيما إنسان أوقع نفسه في خلل مع زمنه، فهو إنسان متخلف دان؛ وكذلك الشأن بالنسبة للأمم والمجتمعات، في كل عصر وآن. بحثاً عن هذا التناغم، وإمعاناً في الحذر من ذلك الخلل، نحاول أن نبرز نقطـة الالتقاء بين عناصر الحضارة الثلاثة: الدين (أو القيم)، والزمن، والإنسان.
وبعد اشتغال بالدراسات الزمنية يربو على عقد كامل، وبعد إنجاز رسالة الماجستير حـول: مفهوم الزمن في القرآن الكريم، نصوغ أطروحةً، محاولين إثباتها في هذا البحث، وهي أن:
للبرمجة الزمنية أصول وجذور دينية، وثقافية، وحضارية؛ وليست مجرد عادات شكليه، أو تصرفات ظاهرية.
وعملنا في هذا البحث يتمثل في التنقيب عن تلك الأصول وإبرازها، مـن خـلال الفكر الإسلامي، مقارنين إياها مع ما توصل إليه الفكر الغربي في هذا المجال. فسنحاول من خلال ملاحظات علمية، بناء على مسلمات -لابد منها- أن ندافع عن هذه الأطروحة، بما يستدعيه البحث العلمي من خطوات منهجية. وسنرتبط بالنصوص الثابتـة مـن قـرآن وسنة، وبالحقائق العلمية، مستعينين بالمفاهيم التراثية لهذه النصوص، وبالتفسيرات المختلفة لتلك الحقائق، ونرجع الحكم -في الأخير- إلى نص واحد هو: القرآن الكريم «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» (سورة الكهف الآية 109).
مما يلاحظه الدارس لقيام الحضارات وفنائها:
- أن الإنسان -في كل حضارة- يقرر أن آماله أكثر من أعماله، وأنه لا ينجز في حياته القصيرة إلا قدراً يسيراً مما يأمله ويرجوه.
- أنه توجد مجتمعات وأمم أكثر استثماراً للوقت مـن غيرها، وهي التي تمكنت مـن تأسيس الحضارات الكبرى في التاريخ.
- أن التفوق -في جميع الميادين، وعلى جميع المستويات- مرهون باستغلال الوقت ومرتبط به ارتباط الأسباب بالمسببات، والمقدمات بالنتائج.
مسار البحث:
قُسّم البحث إلى فصول، والفصول إلى مباحث، فانتظم في الأخير ستة فصول؛ كان الأول مخصصاً للمنهج من خلال ثلاثة مداخل؛ هي: المصطلح، والعلوم الزمنية، والدراسات الإسلامية. تناول المبحث الأول، أول مدخل وفيه حاولت أن أصـوغ تعاريف للمصطلحات الأساسية في البحث، بعد أن عرضت مفارقة المصطلح، فعرّفت الزمن، والبرمجة الزمنية، والأصول (أو التأصيل) والفكر الإسلامي أما المبحث الثاني؛ فخصصته للعلوم الزمنية، التي لها صلة بالبرمجة الزمنية، إما صلة كلية كعلم إدارة الوقت، أو جزئية كعلم الساعة البيولوجية. وفي المبحث الثالث حاولت أن أستقصي المراجع العربية في مجال البحث، فعرضت أولا الكتب المستقلة، ثم الدراسات الجامعية، ورتبتها ترتيباً كرونولوجيا، فكان هذا المبحث بمثابة عرض للمصادر، وتحليل لها.
وحلل الفصل الثاني فلسفة البرمجة، مقارنة بين الفكر الغربي الذي يستند إلى “الأزمنة المهيمنة”، والفكر الإسلامي الذي ينبني على زمن أسميناه بـ “الزمن الصبغة” فاستوى الفصل بالتالي – في مبحثين اثنين: الأزمنة المهيمنة في الفكر، والزمن الصبغة في الفكر الإسلامي.
أما الفصل الثالث: فاهتم بالأصول العقدية والتقـنـية، وبسـط ـ بالتـالي – الغايـات والأهداف في الفكرين العربي والإسلامي، ذلك أن الغايات تمثل عمق المعتقد، والأهـداف تهتم بالتقنية وكنتيجة طبيعية لهذه الأصول.
جاء الفصل الرابع ليحلـل الأولويات؛ باعتبارها من أبرز الأصول التقنية في البرمجة الزمنية، فاهتدى إلى مقترحـات مـن خـلال فقـه الأولويات، والعقيدة، وأصول الفقه لا شك أنها ستفتح المجال واسعاً بين الفكر الإسلامي وواقع المسلمين من جهة، وبين الفكر الإسلامي والفكر الغربي من جهة ثانية.
بناء على الأصول المتقدمة حاول البحث أن يطبق ما توصل إليه من نتائج على البرنامج اليومي، ويوجِد لها شواهد وأدلة من المصدرين الأساسيين للفكر الإسلامي: القرآن الكريـم والسنة النبوية الشريفة، فألِّف فصل البرنامج اليومي مـن خـلال القرآن الكريم، كـان المبحث الأول منه للمصطلح والمنهج، والثاني للبرنامج اليومي من خلال “الليل والنهار”، والثالث للبرنامج اليومي من خلال “أجزاء الليل والنهار”، سالكاً -في كل ذلك- القراءة المَسحيَّة. والمداخل اللفظية، ثم المعاني المترتبة.
واهتم الفصل السادس بالبرنامج اليومي من خلال السنة النبوية، ولم يغفل المحاولات السابقة؛ لأنها تمثل الأرضية التي ينطلق منها المؤسس لهذا المجال الجديد من الفكر الإسلامي
ويلاحظ القارئ أن الباحث لم يخرج -في كامل البحث- مـن المنحى التأصيلي، الذي يعنى بتتبع الأدلة في المصادر الشرعية، كمـا يعنـي بصياغـة قـواعـد مستنبطة من الأصول العامة، ولذا؛ لم يعرج كثيراً إلى حياة الصحابة رضي الله عنهم، ولا إلى التاريخ الإسلامي، لا إنكارا لها، ولكن بحوثاً أخرى جديرة باستكمالها، وإتمام البناء، وإلا فإن المجال أوسع من أن يستوعبه بحث واحد، مهما طال حجمه، وتعددت مصادره.
= العنوان: أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي – دراسة مقارنة بالفكر الغربي.
= المؤلف: د. محمد باباعمي.
= دار النشر: دار الأوائل للنشر والتوزيع– دمشق/سورية.
= الطبعة: الأولى – سنة 2006.
= عدد الصفحات: 559.