في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل عن الآيات – والذي لا يصبر للعلم والبحث والدراسةِ، ولا يتحمَّل إجهاد عقله في الاتجاه الصحيح – فلا يدرك هذه الآيات إلاَّ مشوَّهةً.

“… والتي لم تمت في منامها”:

“علم النوم والأرق” من العلوم المرتبطة جذريا بـ”علم الزمن والوقت”؛ وهو علمٌ قديمٌ قدم البشرية، وللعلماء المسلمين بصمةٌ لا تنمحي في وضع أسسِ هذا العلم، يقول هيثم المناع في كتابه “عالم النوم”: “احتاجت البشرية إلى ألف عام لتتخطَّى دراسة الكندي”([1])؛ ولقد تطوَّر هذا العلم كثيرا بعد اكتشاف “تخطيط الدماغ الكهربائي” (Electroencephalogram) في بدايات القرن العشرين. وفي “أصول البرمجة الزمنية” عرَّفنا هذا العلم، وبسطنا القول في أهم محاوره؛ وهي كثيرة ومشوّقة، وآثارها الصحية والنفسية جليلة؛ ولا يزال البحث العلميُّ فيها يتطور يوما بعد يومٍ، ويكتشف الغوامض والأسرار، من مداخل علمية متعددة.

وما يعنينا في بحثنا هذا هو الجواب عن سؤال الوعي والإدراك والإحساس، أي: هل يدرك الإنسان مرورَ الوقت حين يكون نائمًا؟

وقد فتحنا حوارا طرحنا فيه هذا السؤال – وأسئلة أخرى ذات صلة – على جملةٍ من الباحثين والأطباء عبر العالم؛ فاستفدنا منهم، بخاصَّة الباحث الصديق، البروفيسور سفيان بوستة، وهو متخصّص في “علم الأعصاب”، و تخصُّصه الدقيق هو “النوم والأرق”؛ من جامعة ميكيل في مونتريال بكندا؛ وقد أدرجنا بعض ما استفدنا منه في ثنايا البحث، وسوف ننشر نصَّ الحوار كاملا في ملحق البحث.

أمَّا العلوم التجريبية الحديثة فتقول: إنَّ الدماغ حين النوم لا يكون منفصلا كليَّة عن العالم الخارجي، و”دماغ النائم يستمرُّ في البحث عن إشارات دالَّة بالنسبة له، ويخلُق توازنا بين ما يضمن له الراحة الكافية لتخزين المعلومات وتقوية الذاكرة من جهةٍ، والقدرة على العودة لليقظة بسرعة إذا لزم الأمر من جهة أخرى”؛ فمثلا حين ينام الإنسان إلى جانب خطرٍ ما، فإنَّه يُبقي دماغه حارسًا مُنتبها لذلك الخطرِ، سواءً بالسماع أو الحركة أو حتى بالتفاعل مع كلام الآخرين، فيما سُمي علميًّا “ظاهرة النوم التفاعلي”.

وإدراك الوقت يرتبط أيضًا بالذاكرة، التي تعمل ببطءٍ خلال النوم، مما يساهم في تقليل الوعي بمرور الوقت؛ والدماغُ حين النوم يقوم بمعالجة الذاكرة وإعادة ترتيبها، مما يمدُّها بفعالية أكبر بعد الاستيقاظ؛ ولذا أثبتت التجارب أنَّ قلَّة النوم تؤثر سلبًا على التعلُّم والحفظِ؛(انظر مقالة: “عددُ ساعات النوم” و”ظروف النوم”… أيهما أقومُ قيلاً – د محمد باباعمي.) أي على الذاكرة وسائر العمليات العقلية؛ ومن عجبٍ أنَّ القدرة على التنظيم وتنظيم الوقت أوان الاستيقاظ، يساعد على تنظيم أوقات النوم، سواء بتحديد وقت الاستيقاظ، أو بالقدرة على تقدير مدَّة النوم تقديرا صحيحًا.

والله تعالى في كتابه الكريم يقول عن النوم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(سورة الزمر: 42).

فالنومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل عن الآيات – والذي لا يصبر للعلم والبحث والدراسةِ، ولا يتحمَّل إجهاد عقله في الاتجاه الصحيح – فلا يدرك هذه الآيات إلاَّ مشوَّهةً؛ ولقد قال ﷻ في آية أخرى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (سورة الروم: 23).

وفي آية سورة الزمر تقريرٌ لحقيقة كونيةٍ، وهي أنَّ “النوم موتٌ، أو هو كالموتِ” فالله تعالى حين النوم “يتوفَّى الأنفسَ”، وحين تستيقظ “يُرسلها إلى أجلٍ مسمَّى”؛ فأمرُ الإنسان نائمًا أو قائمًا بيد الله سبحانه، وهو خارجٌ عن تحكُّم الإنسانِ؛ غير أنَّ الإنسان يعتقد أنَّه هو بإرادته يقدر أن يتحكَّم في نومه، وفي روحه، وفي جسده، وفي مصيره… وواقع الحياة يكذّب هذا الادعاء؛ وإلاَّ لما مات أحدٌ من الوجهاءِ، أو من الأطباءِ، أو ممن قرَّر أن لا يموت؛ ولَمَا تغلَّب على هؤلاء سلطانُ النوم، وهو غلاَّب؛ لكنَّ البشر سواءٌ في ذلك: ينامون ويستيقظون، يموتون ويحيون، يضعفون ويقوون…

ولا خلاف أنَّ الميت يفقد الإحساس بالعالـَم الخارجيّ، ويتحوَّل جسدُه إلى قطعةٍ من لحمٍ لا حياة فيها، وتغادره روحُه إلى حيث يعلم الله وحدَه؛ فهل هذه الروح تدرِك ما يحيط بها، وتسمع صوتَ من يحيطون بها… الخ؛ الله أعلمُ، ولا قدرة للعلم على إثبات شيءٍ من ذلك، ولا على نفيِه.

وحين النوم، هل يفقد الإنسان وعيه بالزمن والوقت؟

ينبغي أن نفرّق بين: الجسد والروح والنفس؛ فالآيات والمشاهدةُ واضحةٌ في هذا الأمر؛ إذ إنَّ أثرَ النوم ظاهرٌ على الجسدِ، وعلم “طب النوم” – وهو علمٌ يُعنى بظاهرة النوم والأرق في الإنسان، تأسَّس في منتصف القرن العشرين – لديه أجوبةٌ مستفيضةٌ عمَّا يقع لجسد الإنسان حين يكون نائما.

وتبقى مسألة النوم والإحساس بالوقتِ، متعلقة إمَّا بالروح أو بالنفس؛ وهذا موطن خلافٍ بين العلماء القدامى والمحدَثين، يقول الإمام القرطبي: “وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح، هل هما شيءٌ واحدٌ أو شيئان؟”(الجامع).

أمَّا الروح، فنحن نؤمن أنها من أمرِ الله، وأنَّ العلم لا يقدر على أن يقول فيها شيئًا، لقوله تعالى: “ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا(سورة الإسراء: 85). ولا ريب أنَّ روح الإنسان لا تُقبض إلاَّ حين يدركه الموت؛ وهو حين يكون نائما تكون الروحُ بما لها من مؤشرات: مثل نبض القلب، وعمل الدماغ، والإحساس… الخ، كلُّ ذلك لا ينفصم عن الإنسان النائم؛ وبأبسط عبارة نقول: إنه لم يفقد روحَه، وإنما هو نائمٌ فقَد الاتصال بالعالم الخارجي ولا يزال عالمه الداخليُّ يعملُ؛ بل حتى الموت السريري (coma) خاصيته أنَّه ليس موتًا تامًّا، إذ الروح لا تزال تدبُّ في صاحبها.

والذي يقبَض أوان النوم، بلفظ الآية هو “النفس”: “الله يتوفَّى الأنفسَ حين موتها، والتي لم تمت في منامها“؛ فما هي النفس، إذا لم تكن بمعنى الجسد، وبمعنى الروح؟

بعض التفاسير الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم، تختار الترادف بين الروح والنفس: “الأظهر أنهما شيءٌ واحدٌ”؛ وهي تشير إلى أنَّ روح الإنسان تُقبض، وتلتقي أرواحُ الأحياء ممن هو نائمٌ، بأرواح الأموات “فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعُها الرجوعَ إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبَسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجلٍ مسمًّى، وذلك إلى انقضاء مدة حياتها” (تفسير الطبري).

غير أنَّ بعض ما روي من التفاسير لا يجعل الروح مرادفةً للنفس، بل يفرّق بينهما، فقد روي عن حَبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “في ابن آدم نفْس وروحٌ بينهما مثل شعاع الشمسِ، فالنفْس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفَس والتحريك، فإذا نام العبدُ قَبض الله نفْسه ولم يقبض روحه” وقد اختار هذا القولَ من المفسّرين ابن الأنباري والزجاج، ورده القشيري مدافعا عن الرأي الأوَّل. (تفسير القرطبي)

وأهمُّ ما في هذا القول أنَّ “العقل والتمييز” نُسب إلى النفس، وأنَّ “النفَس والتحريك” نُسب إلى الروح؛ ثم النتيجة العلميَّة وهي أنه إذا “نام العبدُ قَبض الله نفْسَه، ولم يقبض روحَه”؛ والبحوث السريرية باعتماد تخطيط الدماغ، تؤكد بعض هذه الدلالات؛ يقول البروفيسور سفيان بوستة: “أنا أميلُ إلى هذا الرأي، والكلمة المفتاحية التي أنطلق منها هي الوعيُ، إذ إنَّ النائم، وكذا المجنون، والصبيَّ؛ جميعَهم لا وعيَ لهم بطريقةٍ أو بأخرى؛ والنوم هو فقدان الوعي”، أقول: “وهو ما سماه ابن عباس رضي الله عنه العقل والتمييز”.

غير أنَّ البون شاسعٌ بين العلم القرآني، والعلم التجريبي؛ فلا رابط بينهما غالبًا، ولذا ضاع خيرٌ كثيرٌ، وعلمٌ غزيرٌ، على البشريةِ مجتمعةً؛ ذلك أنَّ العلوم بشقَّيها لم تستطع أن تجمع بين العقل والنقل، بين الوحي الرباني والعلم التجريبي… والله أعلم.

(يتبع)

د. محمد بن موسى باباعمي
مكتبة مسجد محمد الأمين، مسقط، عُمان
السبت 03 ذو القعدة 1445ه/11 ماي 2024م


[1] – هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (ت. 258ه/870م)؛ له الكثير من المؤلفات في الطب والنفس، وما له علاقة بالنوم والغذاء؛ وله رسالة بعنوان “رسالة في علوم النوم والرؤيا وما يرمز به النفس” مفقودة، غير أنَّ آراءه وأبحاثه بقيت مرجعا لقرون.

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 03

مقدمات في وعي الإنسان بالوقت (03) (من موشور علم الزمن والوقت) حرص آدمُ وزوجه حواء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *