كتابا موقوتا: الصلاة والسفر في الزمن

“عجبتُ ممن معه الحق والقرآن، ثم يُغلب…
وعجبتُ ممن وقف إلى جوار الشيطان، ثم يَغلب…”

كتب الكثيرون في “الحقل العلمي” حول “السفر في الزمن”، مِن زوايا عديدة منها ما هو “خيالٌ علميٌّ”، ومنها ما هو “تصويرٌ فيزيائيٌّ”، ومنها ما يندرج ضمن “المستقبليات”؛ ولقد قرأتُ الكثير من الأعمال الأدبية والعلمية في هذا الاتجاه، ولا أزال.

غير أني تحيَّرت أنَّ منتهى ما تصل إليه هذه الأعمال هو “الاستحالة المطلقةُ واقعيًّا وعمليًّا”، مع ادعاء “الإمكانِ الذهني” و”الحسابِ الرياضيّ”؛ أي أنَّ السفر في الزمن نحو الماضي أو وجهة المستقبل: ممكنٌ ذهينا بالتذكُّر والتوقُّع والخيال؛ وهو ممكن رياضيًّا بالحسابات، والافتراضات، والألغاز العلمية المعقَّدة.

وبين يدينا “وحيٌ”، ووسيلةٌ للتنقُّل والسفر عبر الزمن والوقت، نحو الماضي السحيقِ في الأزلية، ووجهة المستقبل الموغل في الأبدية؛ ونحن في المستوى العقلي والقلبي لا نجد أيَّ اعتراضٍ على ما يصوّره لنا هذا الوحي من حقيقةٍ ليست خيالاً، ومن حقٍّ لا يمتُّ إلى الافتراض بصلةٍ؛ بل إنَّنا قد نصدّقه ولا نصدّق حواسنا في بعض ما يعترينا من مشاهدات وشواهد في يومياتنا.

وديدن الأعمال المغلَّفة بالعلم أنها تستهجن كلَّ ما جاء به الدينُ، بخاصَّة أنَّ ثمة عقدةٌ حيال “المسيحية المحرَّفة” من يوم وقفت حاجزا وحائلا أمام التقدُّم العلمي للمجتمع الغربي؛ إلاَّ أنَّ هذا لم يكن صادقًا على العلم الشرقيِّ، في شقّه الإسلامي؛ إذ الصورة مناقضة تماما:

فحين ارتبط العلم بالقرآن الكريم وبالسنة الطاهرة ارتقى وبلغ الذروةَ، وحين خفتت جذوة الإيمان في القلوب، واستهتر الملوك والعامَّة بالوحي، ثم اتخذوه وسيلة للتبريك وتبرير السكون، لا معراجا للحركية ومنطلقا للاجتهاد؛ حينها خسروا كلَّ شيء: العلمَ والعملَ، الوحيَ والتمكينَ.

حاولتُ بكل ما أوتيت من رصيدٍ أن أصوغ وصفًا، أو عنوانا للسَّفر في الزمن من معراج القرآن الكريم، فلم أقدر على تجاوز الأسلوب القرآني المعجِز: “كتابًا مَوقوتا”.

عوض “إطار من البرونز تتسلَّل من خلاله خارج الزمان”، أو “آلة معقدة”، أو “مكوكا”، أو “منطادا”… تجد بين يديك كتابًا، يحوي الوجود كلَّه ويربو عليه، وهو ليس من “صنع بشرٍ”، بل هو “تنزيلٌ من عليم حكيم”: تفتحُه، تقلّب صفحاته، تجول بين آياته الكونية، والنفسية، والآفاقية بسلاسة ويسر “ولقد يسرنا القرآن للذكر”.

ثم ترقى وترتقي… إلى أن تبلغ “سدرة المنتهى”، وتسمع صوتا يهتف في أذنك: “اقرأ وارق ورتل، فإنَّ منزلتك آخر آية تتلوها من كتاب الله”…. فإذا بك هنالك في الجنات ترتع، وتسمُر، وتردد التحية لمن معك: “سلاما سلاما”…

حين يقف الواحد في صلاته، وبعد تكبيرة الإحرام، يشرع في تلاوة “سورة الفاتحة”، فتحمله إلى الأزلِ ثم تنقله إلى الأبد في بضعِ كلماتٍ، منها ما هو مباشرٌ من مثل: “يوم الدين”، “لم يلد ولم يولد”… ومنها ما هو غير مباشرٍ، أي مجرَّدٌ، من مثل اسم الله تعالى: “بسم الله”…

فبذكر اسمه تعالى تكون قد سافرت إلى اللامتناهي، وخاطبت من هو متجاوز وهو قبل الزمان وفوق المكان: اللهُ سبحانه وتعالى؛ وكذا صفاته من رحمة ورحمانية ورحيمية… الخ.

ومِن أسعد لحظات العمر ساعة تدخل في حوارٍ مع الله جل جلاله، وأنت منغمس في تلاوة الفاتحة، فتسمعه سبحانه وهو يقول للملائكة وللكون أجمع، ويخاطبك بالذات، بصوتٍ تعرفه كأنك مع موسى عليه السلام في الطور، أو مع محمد وصاحبه في الغار… تسمعه وهو يقول:

“قسِمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين ، قال الله تعالى: حمدني عبدي ، وإذا قال: الرحمن الرحيم…”

إلى أن يقول: “… هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”

ثم تنتقي أيَّ آية تشاء من كتاب الله المفتوح: “ما تيسَّر من القرآن”، فتجدُ نفسك بعقلك وإحساسك، بفكرك وشعورك، بل إذا كنت خاشعًا حقًّا يكون ذلك بجسدك حين يسكنُ، وحين يُنصت، فتدمعُ العينُ، ويتصبَّب الجبين عرقًا، وتنطلق دقَّات القلب بلا حدٍّ يحدها، ولا حصرٍ يحصرها.

خذ مثلا “سورة المسد”؛ تجد نفسك تجول بين شوارع مكَّة، وفيها “أبو لهب” يصول ويجول بغروره قبل مئات السنين، ومعه امرأته، هنالك، تراها وتُبصرها في شكلها ومشيتها وكبريائها، بل في صورتها الشبيهة بالعرَّافة والساحرة؛ وهي تأمرُ الخدم بإشعال النار، ووضعِ الحطب في طريق نبي الله محمد…

وهو هو عليه السلام، يمشي الهوينا، قادمٌ مِن بعيد، في تواضعٍ وثباتٍ؛ ويُرسل بصره نحو السماء تارةً ليسبّح الله على إثره، ونحو الأرض ليستغفر الله أخرى…

ثم، لا تلبث بلا سابق إنذارٍ تجد روحك ونفسك، وتشهد خطرات قلبك ونبضاته، وخواطر عقلك ودفقاته، وهي هنالك مثل آلة كاميرا تصوّر من علوٍّ شامخٍ، منظرًا لا يمكن أن يزول من فؤادك أو ينمحي من ذاكرتك إذا ركَّزت وخشعتَ…

تسافر هنالك إلى “الآخرة”، إلى حيث “جهنم مستعرة: حصير من النار، ولهبٌ ولظًى، وماءٌ حميمٌ، وريحٌ سمومٌ، وطعامٌ من غسلين…”، والملائكة من كلّ جانبٍ، كأنك تراهم رأي العين، وهم يُلقون بالكفار في الجحيم، بأمر من ربهم سبحانه…

أنا الآن، وأنا أصلي الفجر مثلاً، قد سافرتُ عبر الزمان والمكان لا أعرف كم من عام، أو قرن، أو سنين ضوئية، إلى الآخرة… وامرأةُ أبي لهبٍ التي شاهدتها قبل قليلٍ في مكة، وهي هنالك في العالم الآخَر “حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد”.

والحطب الذي تلقيه في حفرة من نارٍ لا توصف بأوصاف الدنيا، ضخامةً وهولا، وفيها زوجُها أبو لهب وهو يحترقُ، و”يصلَى نارا حامية”، وامرأته تستعر معَه في منظر مهول… يحرك فيَ الذكرى، والعبرةَ، ويدفعني إلى أن أسأل عن سبب شقائهم في النار حتى أتفاداه، وعن مراقي الجنة من الجهة المقابلة حتى أبلُغها…

وأجد بعد بحثٍ وعناءٍ، أنَّ “الإيمان” و”الإيمان وحده” هو السُّلَّم، والمصعد، والسبيل، والطريق… إلى الجنة؛ وهو المانع، والحاجز، والحافظ، والدافع عن النار…

ثم إنَّ السفر في الزمن، لم يكن إلاَّ بسبب “الإيمان”، وعلى “منطاد الإيمان”: “إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”…

فقط مَن حُقَّ له أن يُسمَّى مؤمنا يمكنه أن يقفَ إلى الصلاة، وينتقل عبر العوالم بجميعه وجميعها؛ أمَّا مَن شكَّ، أو نافق، أو كفر، أو جحد… فلا تعدو الآياتُ والسور في حلقه أن تتكوَّنَ كلماتٍ باردة، يتمحَّلها، يقلّبها، وقد يُعربها، ولقد يشرحها، أو يبحث عما يعتقد تناقضا فيها… هذا الذي حتى لو وقف إلى الصلاة، وهو في هذه الحال، فإنه لن ينتقل إلى الأزل، ولن يسافر نحو الأبد… سيكون كطائر مهيض الجناح، مقطوع الريش بلا براح…

الآن، ما المانع أن ينبري الأدباء، والعلماء، والكتَّاب، وأهل الفكر… فيصوغوا للأطفال روايات من “عمق القرآن الكريم”، في السفر في الزمن إلى تاريخ الإنسان من  آدم عليه السلام، إلى يوم البعث؛ ثم إلى السماوات والأرضين، وبداية الخلق ونهايته؛ والبرزخ، والجنة، والنار… بديلا عن خرافات “آلة الزمن”، و”هاري بورتر”… وغيرهما.

هذه الأسفار يجسّدها الفنَّانون وكتَّاب السيناريو، والرسَّامون والمخرجون… شرطَ أن يكونوا مؤمنين… حتى نقاوم بها العواصف، ونواجه ما تلقيه وسائل الإعلام من إثم أثيمٍ: وشبكات التواصل، والهيئات الإعلامية الدولية، والاستديوهات التي على شاكلة هوليوود… لا تنفث إلاَّ السمَّ، ولا تزرع إلا الشرك، ولا تصور إلاَّ الإلحاد…

عجبا ممن معه الحق والقرآن، ثم يُغلب… وعجبا ممن وقف إلى جوار الشيطان، ثم يَغلب…

محمد باباعمي

22 ربيع الأول 1442هـ/8 نوفمبر 2020م

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

رمضان :: من موشور “علم البرمجة الزمنية”

بسم الله الرحمن الرحيم د محمد باباعمي علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *