في البحث الذي أنجزته أواسط التسعينيات بعنوان “مفهوم الزمن في القرآن الكريم”، بذلت جهدا في استخراج مادة “الزمن والوقت” من القرآن الكريم؛ وانتهيت بعد “القراءة المصحفية” المتأنية، والمراجعة الدقيقة لجملة من “فهارس القرآن الكريم”، إلى حصر أولي للمادة المباشرة في دلالتها على “الزمن والوقت”: سواء في ذلك الألفاظ أم الأساليب؛ أمَّا المادَّة غير المباشرة فذكرت أنها وافرة كثيرة بحيث قد يستحيل حصرها، ومثلت لذلك بالحروف التي هي “وحدات زمنية” بالضرورة، وكذا “الأفعال” في جملتها، فهي ذات بعدٍ زمني لا محالة، وأما في الأساليب فأوردتُ مثالين، هما:
قوله تعالى “لم يلد ولم يولد” قال الزمخشري: “في الآية وصف بالقدم والأزلية”، وليس ضمن الآية كلمة واحدة دالَّة على الزمن دلالة مباشرة.
وكذا قوله تعالى عن الكافرين: “قالوا: ربنا غلبت علينا شقوتنا، وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون“، ففي الآية طلب من الكفار للعودة إلى الماضي، ويكون الجواب المبكت المسكت من الله تعالى: “العودة إلى الماضي أمر مستحيل”، أي أنَّ حركة المخلوق من نقطة زمنية إلى نقطة سابقة غير متاح؛ فلا تسألوا الله ما يخالف سنن الكون.
واليومَ، وأنا أضع أسس “علم الزمن والوقت” لا بديل من اعتبار القرآن الكريم “هو المصدر الأوَّل والأساس لمادة الزمن والوقت”، أمَّا المصادر الأخرى فهي تابعة، وهي لا تملك نفس الخصائص ولا ما يشبهها: من الإطلاق، والصدقية، والوضوح، والدوام، والتجدد، والتجاوز، والهيمنة، والسعة…
وفي هذا السياق أعمد إلى “المصحف الشريف” وأعيد التجربة التي غصتُ فيها قبل خمس وعشرين عاما، يوم جلست للمصحف الشريف شهورا، أتفكر في كلام الله تعالى وأدَّبَّر، أستخرج الألفاظ والأساليب، وأسجل الملاحظات والخطرات، وأرسم الجداول والبيانات، إلى أن أتممت بحثي فكان له من الأثر الطيب ما لا يخفى؛ فقد نسج على منواله العديد من الباحثين، في جامعات وطنية ودولية كثيرة، ولقد أحصيت بعض هذه البحوث وتحصلت عليها.
ثم كانت لي جولات مماثلة مع “الزمن والوقت” من خلال “أصول البرمجة الزمنية”؛ وكذا جملة من العناوين في هذا الشأن؛ وسفرٌ آخر مع كلام الله تعالى، من خلال “بذور الرشد”، بخاصَّة ما تم من تفسير لجزء الرحمن (الرحمن-الناس).
واليومَ، ضمن “نموذج الرشد”، وتحت راية “تفسير الرشد”، وفي سياق التأسيس المعرفي “لعلم الزمن والوقت”، أعاود الكرَّة، وأسجل ما يعنُّ لي من “دلالات غير مباشرة على الزمن والوقت في القرآن الكريم”، وبالله أستعين، ومن سورة الفاتحة أبدأ، وعلى الله الثكلان:
سورة الفاتحة
“بسم الله الرحمن الرحيم”:
جميع أسماء الله تعالى وصفاته تتجاوز الزمن، فهو الله قبل خلق المخلوق وبعده، وهو الله في الأزل والأبد، وهو الله في كل آن من الزمن؛ ورحمته تعالى كذلك فوق كل اعتبار زمني، ولا تقتصر على المرحوم من الخلق، فهو الرحمن وهو الرحيم سواء وجد المرحوم أم لم يوجد.
وبسم الله، أي أستعين بالله، في خصوص ما يرد في السورة من الحمد، وسؤال الرحمة، والاعتراف بالملك، والإقرار بالعبودية، والتعلق بالاستعانة، وسؤال الهداية، والاستعاذة من الحشر مع من غضب الله عليه، أو مع الذين ضلوا فحق عليهم اسم “الضالين”. وجميع هذه المعاني لا زمن يحدُّه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “بسم الله”، وقبل ذلك نزلت على سيدنا سليمان عليه السلام لفظا، وقالها الأنبياء والرسل والمؤمنون معنى؛ وستبقى العلامة الفارقة بين المؤمن الذي يقول باسم الله، ويفعل باسم الله، ويأتي ما يأتي باسم الله، ويذر ما يذر باسم الله… والمنافق، والكافر، والمشرك، الذي يتخذ من دون الله شريكا، ويقول ويعمل بغير اسم الله، وشتان بين أفق وأفق، بين امتداد وامتداد: فاسم الله أزلي أبدي، واسم غيره زائل بائد.
“الحمد لله رب العالمين”:
العالمون: هم أصناف الأمم، وأهل كل زمان وقرن، وقيل عالم الجن وعالم الإنس؛ لكن المادَّة هي من “علم” والعالـِم تعني كلَّ ما سوى الله تعالى من عوالم: البشر والجن والملائكة، والسموات والأرض، والجماد والنبات والحيوانات.
وجميل هذا الحوار بين المفسرين المتقدمين من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم في معنى “العالمين”:
قال حبر ابن عباس: رب العالمين أي “ربّ الجن والإنس”،
وقال قتادة: “ربُّ الخلق كلهم”.
قال الأزهري: “الدليل على صحة قول ابن عباس قوله عز وجل “تبارك الذي نَزَّلَ الفُرْقانَ على عبده ليكون للعالمينَ نذيراً” وليس النبي صلى الله عليه وسلم نذيراً للبهائم ولا للملائكة، وهم كلهم خَلق الله، وإنما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم نذيراً للجن والإنس”.
وروي عن وهب بن منبه أنه: “قال لله تعالى ثمانية عشر ألفَ، عالَم الدنيا منها عالَمٌ واحد، وما العُمران في الخراب إلا كفُسْطاطٍ في صحراء”
وقال الزجاج: “معنى العالمِينَ كلُّ ما خَلق الله، كما قال “وهو ربُّ كل شيء” وهو جمع عالَمٍ”.
ولا ريب أنَّ امتداد الزمن بامتداد الدلالة، فإذا كان العالمون هم جميع الخلق، فإنَّ بداية الخلق أسبق بكثير على خلق الإنس والجن؛ والحق أنه مهما كان توجيه الآية، فإنَّ الله تعالى “رب الخلق جميعا”، “رب كل شيء”، ولا شيء يخرج من ملكه سبحانه.
“الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم”:
جميع النعم، مهما بدت قليلة فإنَّ الحمد يعود فيها إلى الله سبحانه؛ وذات الصفات التي وردت في البسملة تكررت في مستهل السورة، إلاَّ أنَّ “ربَّ” حلَّ محلَّ “الله”، والربُّ صفة واسم، أمَّا “الله” فاسم غير مشتق، وهو الاسم الوحيد لله تعالى عند بعض المفسرين، يوصف بكل الصفات الحميدة، التي تتحوَّل بالعهد إلى أسماء.
“ملك (مالك) يوم الدين”:
هذه الآية تنقلنا مباشرة إلى المستقبل، وتنبه عقولنا إلى “مالكية” أو “ملكية” يوم القيامة، ويوم الجزاء والحساب، كما وُجِّه معنى الدين إلى أنه “الجزاء والحساب”.
أو أنَّ ملك الله تعالى لذلك اليوم، أنَّ الأمر ليس كالدنيا التي أشرك فيها سبحانه في الحكم غيره من الخلق، حتى تجرَّأ بعضهم بأن أنكر ملك الله ونسب الملك جميعا إليه؛ وإنما يوم القيامة لا أحد له أيُّ ملك، ولا ملكية، ولا أحد يدَّعي أنه مالك أو ملك؛ وإنما الخلق جميعا سواء عند الله تعالى، والملك كله لله جل جلاله.
“إياك نعبد وإياك نستعين”:
من الناحية الزمنية يثيرنا فعل المضارع الدال على التجدد، والاستمرار، وعلى تعلق السفة بالموصوف؛ فجميع من اعتقدنا، في جميع الأزمان والمكنة، يقر لله تعالى حصرا بالعبودية، ويعترف له تعالى بأنه هو الذي يقصد ليعين لا غيره. ثم لا يكون ذلك بالمفرد لكن بالجمع: “نعبد” و”نستعين”؛ وزمن الجماعة أوسع مدى من زمن الفرد؛ فالمعنى صادق على آدم عليه السلام، في بداية الخلق؛ وهو صادق على آخر إنسان (أو جان) يفنى قبل النفخة الكبرى ليوم الحساب؛ فهو بالتالي يستغرق آلاف السنين، أو أكثر؛ حسب حلول الساعة وأوانها؛ وهو زمن غير معلوم لدى المخلوقات، وإنما هو من خصوصية الله تعالى.
سورة البقرة
“ألـم” لا يعرف تجريد في اللغة الطبيعية أكثر من هذا التجريد في الأحرف الطبيعية، فقط يكون ذلك المستوى في اللغة الرياضية؛ ولم يألف الناس وهم يكتبون ويؤلفون أن يوردوا “أحرف مقطعة” غير دالة على معنى معين في ذاتها؛ ولذا فإنَّ هذه الأحرف يوجه معناها، ولا يحسم في ذلك؛ ويجتهد المجتهدون في إيجاد التوجيه الملائم اللائق، ولقد يوفقون أو يخفقون؛ ولكن تبقى هذه الفواتح للسور في مستوى الإعجاز، ولا تتلبَّس بأي معنى نهائي؛ بل إنَّ إعجازها في ذلك.
ومن المعاني البديعة أنَّ هذه الحروف هي “مادَّة” القرآن قبل أن يصوغها تعالى، وهذه المادَّة متوفرة بين أيديكم؛ ولكنَّ الله تعالى نفخ فيها الروح، وجعلها معجزة إلى يوم القيامة؛ أما أنتم فلا تملكون أيَّ قدرة على فعل ذلك؛ ويبقى تأليفكم للمعاني قاصرا ناقصا، معيبا عليه مآخذ؛ يتقادم مع الزمن؛ ولا يكون ذلك في شيء مع كلام الله تعالى. (وانظر مستويات التجريد، موساوي، الرد على الرصافي).
“هدًى للمتقين، الذين يومنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون”
الغيب من المعاني الزمنية الأكثر تعقيدا، ولقد تشعبت دراسته إلى مجالات الفلسفة، وعلم الكلام، والتفسير… غير أنَّ الآية تخرج الغيب من مجال العلم إلى مجال الإيمان؛ أي أنَّ العقل البشري لا قدرة له على معرفة الغيب، ولذا فالواجب على الإنسان أن يؤمن بالغيب، وأن يصدق ما جاء به الوحي من أمور الغيب؛ وبخاصَّة ما كان من الغيب الذي لا يطلع الله تعالى عليه عباده، من مثل: الموت، وما بعد الموت، والبرزخ، ويوم القيامة… كذلك ما كان قبل خلق الإنسان، من أمر الكون، والإنسان، والجن، والملائكة؛ وكذا ما لا يحصى من التفاصيل التي لا يدركها عقلٌ، وهي مما خفي على الناس، وخرج من مجال إدراكهم؛ إذ العلم يتعامل مع العينات، وليس مع العينيات؛ فلا يوجد علم ولا عالم يدعي أنه يراقب جميع الأسماك في جوف جميع البحار في جميع الأوقات مثلا؛ وإنما العلم ينبه إلى المثال والنموذج، ثم يقيس عليه، ويبني الحكم على اعتبار النظام في الكون؛ ولو لم يكن الكون والخلق ذا نظام لما أمكن للعلم أن يوجد، ولا أن يقول كلمةً واحدةً.
ولكني، أتأمل وأسأل عن العلاقة بين “الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة والإنفاق”؟
فأجد أنَّ الصلاة والإنفاق من وجهة نظر العقل المجرَّد فعلان لا معنى لهما، ولا يتقبلهما العقل؛ ذلك أن الصلاة مخاطبة لمن لا يرى، وتوجه إلى جهة لا دليل عليها إلاَّ ما جاء أمرا من الوحي، وأفعال وأقوال يتقبلها الإنسان ولا يملك لها تفسيرا عقلانيا، فهي غير معقولة المعنى.
وكذا الإنفاق هو إنقاص من المال، وهو إفقار للإنسان؛ وكيف يمكن للإنسان، إذا لم يعتبر الغيب، وبالخصوص وجه الله تعالى، والجزاء يوم الآخر، بل والحفظ في الدنيا والرزق من الله؛ كيف له أن يجد مبررا للصدقة، والزكاة، والإنفاق؟ وهو إن فعل، فإنَّ إرضاء النفس، وطلب الذكر، ومراعاة المصلحة العامة، وانتظار النفع… هي التي تحكم تصرفه؛ ولا أجر ينتظره، ولا مثوبة؛ فهو إذا لم يؤمن بالغيب لم يتقبل ما تتجاوزه الجوارح والعقل.
وعلم التنجيم، هو منطقة وسط بين الغيب والشهادة؛ ولذا يبحث فيها عن العلل القريبة والبعيدة؛ فالعلل القريبة هو ما كان من علم الهيئة، وعلم الفلك، وكل ما يسمى اليوم “التفسير العلمي” للظاهرة الفلكية؛ أما العلل البعيدة، فلا تفسير لها من الناحية العلمية، هي نوع من التخمين، والحظ، والترميز، وربط العلاقات فيما يبدو ظاهرا أن لا علاقة فيه؛ من مثل الربط بين ظهور نجم وانهزام جيش معين، مثلا.
“والذين يومنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون“
هذه الآية تستغرق جميع الزمن “وقت نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وكذا زمن النبوات إلى آدم عليه السلام؛ ثم الآخرة التي هي من جهة الأبد، واللانهاية؛ كل ذلك يستدعي الإيمان والتسليم، واعتبار الوحي مصدرا للعلم، بل هو المصدر الوحيد في هذا المستوى؛ ولذا فاليقين شرط أساس، كما كان من قبل “هدى للمتقين“، وهنا “بالآخرة هم يوقنون“.
ولو أخضعنا الآخرة للعلم، فماذا سيقول عنها؟
كيف يمكنه أن يستدلَّ عليها؟
من أي جهة، وبأي علم، ووفق أي منطق؛ وأيُّ عقل يملك أدلة علمية (أعني إمبريقية) على الآخرة؟
الآخرة طريق العلم بها لا يكون إلاَّ من الله تعالى، عن طريق الوحي والتنزيل الصحيح؛ فإذا صحَّ أنَّ هذا الوحي من الله، وأنه حقٌّ؛ فإنَّ ما يرد فيه من التفاصيل الدقيقة، كنوع الشراب، وأشكال الفاكهة للمؤمنين، أو الماء الحميم، والطعام من غسلين للكفار؛ كل ذلك لم يثبت إلاَّ عن طريق الوحي؛ ولا يعرف مصدر واحد، ولا علم واحد، ولا عالم واحد؛ يدعي أنه يملك أدنى معرفة عن الآخرة.
قد يستدلُّ العقل على وجود الآخرة، وعلى إمكانيتها؛ ولكنه لا يقدر أن يستدلَّ على محتواها، وعلى التفاصيل التي ترد فيها، بل وحتى عن خواطر النفوس، وبعض العبارات والألفاظ… التي ستسم العباد يوم لقاء رب العباد.
“ومن الناس من يقول آمنا بالله، وباليوم الآخر، وما هم بمومنين، يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلاَّ أنفسهم وما يشعرون“
الإنسان يتواصل مع العالم الخارجي، ومع من حوله، إما بالإشارة، وإما بالعبارة، وإما بالكتابة؛ ومن ثم فقد يقول شيء، وهو يعتقد خلافه؛ وقد يدعي أمرا وهو يؤمن بنقيضه؛ وليس للآخرين قدرة على كشف ما يختلف هنالك في الداخل من حقائق، إلاَّ الله تعالى: “هلا شققت عن قلبه؟”، أمَّا الله سبحانه فهو الذي “يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور“.
إذن، من الناحية الزمنية، لا يملك الإنسان منهجا ولا وسيلة تجسر الهوة بين المخفي في القلوب، والمعلن بالألسن، أو باليراع؛ أما الله تعالى، فهو يعلم جميع ما قلوب جميع خلقه، وهو يعلم من يخادع ومن هو صادق؛ وهو يعلمنا بذلك بالصفة، أما التعيين فقد تركه له سبحانه.
وهذا معضلة أخرى في أصل المعرفة، لا يمكن للعلم أن يقول فيها شيئا، وما علم النفس، وما حام حوله، سوى تتبع للإشارات، ونظر في المؤشرات، وبحث في بعض ما يخفيه المريض ثم يظهر للعين أو للأذن أو لليد… فيؤسس لعلم ما خفي بما علم، ويستدل على هذا بذاك… ولكن، لا يوجد علم يكتشف ما غاب هنالك في قرارة القلوب، إلاَّ الله تعالى سبحانه.
وهل الآية تخص إنسانا واحدا بعينه؟ أم أنها تخص أناسا معينين في زمن ومكان معين؟ أم أنها تعالج باطن جميع الناس من لدن أوَّل إنسان، إلى فناء آخر إنسان من الوجود؟
فالتحدي إذن، يتجاوز المكان والزمان والحال والصفة؛ إلى كمال العلم، بلا قيد من مكان ولا زمان ولا حال ولا صفة؛ وعلم الإنسان محصور مكانا وزمانا وحالا وصفة؛ فهو قد يكشف ما أخفى إنسان واحد، في “تحر بوليسي” مثلا، عن جريمة حدثت، ويتخذ إلى العلم بذلك أساليب نقول عنها إنها متطورة جدا، ومكلفة للغاية، ولا تتأتى إلاَّ لبعض العقول من خلال علوم استخبراتية متقدمة، من مثل: التنويم، والإيحاء، وقراءة النبرات، والتخطيط الذهني… الخ.
سورة الكهف
“قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا؛ قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا“
خذ دواة، واملأها حبر ومدادا، ثم حضر عددا من أقلام الخط، وبادر إلى كتابة ما تشاء؛ فإنَّ المداد بعد مدَّة زمنية سينفد، والأقلام كذلك ستبلى وتقدم؛ وافترض أنَّ كلَّ بحار الأرض كانت مدادا، ثم كانت جميع الأشجار أقلاما، ثم كتبت بها “كلمات ربي”، لا ريب أنَّ الزمن لكتابتها حتى ينفد البحر سيحسب بملايير السنين، أو بأكثر؛ ومع ذلك لو أتيت ببحر آخر، وآخر… إلى ما لا نهاية، فإنَّ كلمات الله لن تنتهي.
والآية تعبر عن اللانهاية بأسلوب رياضي عجيب، وهو ما يعرف بالبرهان بالخلف؛ ذلك أنه إذا كانت المسألة صادقة على “ن” (البحر)، وكانت صادقة على “ن” + 1 (مثله) فإنه ستكون صادقة على ما لا نهاية؟؟؟. ولعلَّ الصيغ الرياضية هي غير ما ذكرتُ، فلينظر مع الرياضيين.
والآية اللاحقة ثمرة للسابقة، إذ من كان يرجو لقاء الله ليخلد في الجنة النعيم، فما عليه إلا أن يؤمن بالله، ويعمل عملا صالحا، ولا يشرك به أحدا؛ فإنه سيكسب الخلد في الخالد سبحانه، وسينال الجزاء الدائم ممن لا نهاية له ولا لفضله تعالى شأنه.
فالآية إذن، زمنية بامتياز، وإن لم تكن الألفاظ ذات دلالة زمنية مباشرة، إذ ليس فيها إلاَّ لفظ “قبل”، وحرف الفاء “فليعمل” وهي زمنية “قبل أن تنفد كلمات ربي”، “فليعمل”؛ والألفاظ الأخرى مثل “نفد”، و”يرجو”، “يوحى”… هي دالة على الزمن دلالة غير مباشرة؛ ولكن السياق يجعلها واضحة معبرة دقيقة في دلالتها على الزمن اللامتناهي، والمستقبل، والماضي… الخ.
سورة الإسراء
“سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى…” (الآية 28)
“فإنْ قلتَ: كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ، وأنا أفعل بدون أنْ أقولها؟ نقول: نعم أنت تفعل بدون كُنْ؛ لأن الأشياء ليست منفعلة لك أنت، إنما هي مُسخَّرة بكُنْ الأولى حين قال الله لها كوني مُسخَّرة لإرادته، إذن: أنا أفعل بدون كُنْ؛ لأنها ليست في مقدوري أنا، فكأن كُنْ الأولى من الله تعالى هي كُنْ لنا جميعاً.
وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج، واستطعنا الرد على منكريها، فالله يقول:
“ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى”.
فلمَّا سمع الكفَّار بالحادثة أنكروها وقالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن، أمَّا محمد فلم يقُلْ سريتُ، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال: أُسرِي بي” (تفسير الشعراوي؛ ج19/ص11734).
سورة الفرقان
“وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا” (الآية 32) الاستعجال وطلب طي الزمن (ينظر الاستعجال مفهوم الزمن)
سورة لقمان
“ما خلقُكم ولا بعثُكم إلاَّ كنفسٍ واحدةٍ، إنَّ الله سميعٌ بصيرٌ” (الآية 28)
الآية تلغي شرط الزمن في حق الله تعالى، ولا تعني أنَّ خلق جميع الناس وبعثكم يكون في زمن خلق إنسان واحد وبعثه؛ وإنما الصيغة للتقريب، ولبيان أنَّه في حق الله سواء يستوي خلق نفس واحدة مع خلق البشرية جميعا؛ فالله تعالى لا يتزمَّن، ولا يحتاج إلى زمن، ولا يقطره زمن؛ بل الزمن مخلوق له سبحانه؛ وهذا ما لا يتأتى في حق البشر والخق جميعا، الذي يقهرون بالزمان والمكان، وبالجواهر والأعراض، شاؤوا أم أبوا، ولا يملكون الخروج من سلطان هذه الأبعاد، التي هي من سنن الله تعالى “ولن تجد لسنَّة الله تبديلا“.
يقول الإمام الشعراوي: “إنَّ عناصر الفعل هي: الفعل، والفاعل، والمنفعل، يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل، فأنا أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل، وأنا الفاعل، والجملة هي المنفعل ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتاً طويلاً، فإن خِطَّه بالماكينة أخذ وقتاً أقلّ بكثير.
إذن: فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت، وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد. إذن: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن.
فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت: أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك؟ إنها بقوة الله عز وجل، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها، إنما يفعل سبحانه بكُنْ. إذن: فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن تُوزَّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن”
كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن، فإذا كانت القوة قوة الحق – تبارك وتعالى – فلا زمن؛ لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة: “ ما خلقكم ولا بعثكم إلاَّ كنفسٍ واحدةٍ”.
فالأمرُ يسيرٌ على الله؛ لأنَّ خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع الأنفس يتم بكُنْ، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر”. (تفسير الشعراوي، ج19/ص11732).