إنَّ “سؤال الأزمة” في “نموذج الرشد”، الذي هو عن “حركية الفكر والفعل”، مردُّه إلى “الرؤية الكونية التوحيدية”، ولا يستقيم هذا السؤال في سياق إلحاديٍّ ماديٍّ، إلاَّ بما يوفِّره من أجوبة على أسئلة المادَّة؛ أمَّا أسئلة الإنسان: خلقه، سعادته، مصيره، رضاه، حيرته… فمرجعها إلى “الإيمان بالله” وحده.
“سورة الشمس” في الترتيب المصحفيِّ القرآنيِّ تأتي قبل “سورة الليل”؛ ولقد قمتُ بتحليل السورتين في سياق “حركية الفكر والفعل”، فانفتحت أمامي ملاحظ، تجعل من “الزمن” بعداً فكريا وحضاريا للمعادلة، وتتخذ من “الوقت” بُعدا جديدا لسؤال الأزمة في نموذج الرشد؛ ومما توقَّفتُ عنده:
السورتان تبدآن بالقسَم، وتجعلان “الزمن والوقت” موضوعا للقسَم، أي مقسَما به: “الشمس، الضحى، القمر، النهار، الليل، السماء، الأرض”، ولا ريب أنَّ الزمن الطبيعيَّ (أي المرتبط بمظاهر الطبيعة) لا يتجاوز هذه العناصر الكونية السبعة، التي أكسبت حركة الزمن صفة البساطة والوضوح؛ وهي التي لازمت الإنسان الأوَّل، ولا تزال تلازمه إلى يوم القيامة، في علاقته الفطرية الطبيعية مع الوقت، وهو يكابد فكره أو يمارس فعله.
وكذلك أقسمتْ آيات السورتين بحركة الزمن وبحركيته وتعاقبه: “حرف العطف الواو”، “ظرف الزمان إذا”، “الأفعال بصيغة الماضي: تلاها، جلاها، يغشاها، بناها، طحاها”، الأفعال المضارعة: “يغشى، تجلَّى”.
سورة الشمس في رمزيتها تلازِم “الفعل”؛ لأنَّ الشمس عنوان النهار، والنهار وعاء الحركة والمعاش والضرب في الأرض. أمَّا سورة الليل، ففي رمزيتها تلازِم “الفكر”؛ ذلك أنَّ الليل وعاء التأمُّل والنظر وخلوِّ البال… وكلِّ معاني إعمال الفكر والقلب. فتكون رمزية ما بين السورتين: حركية الفعل (الشمس) والفكر (الليل). وهي نفسها متلازمة لحركة الليل والنهار، فلا حركية للفكر والفعل بلا حركية الليل والنهار؛ وتكتسي حركية الليل والنهار قيمتها ومعناها فقط إذا عمِّرت بحركية الفكر والفعل، وإلاَّ صارت إطارا ميتا مغلقا طبيعيا، لا معنى له في حدود مسؤولية الإنسان.
وظفت السورتان أسلوب اللف والنشر المعكوس: فحين كان المقسَم به هو الشمس (الملازم للفعل) كان المقسم عليه أولا هو “النفس” أي ما يلائم جانب الفكر والنظَر أساسا؛ وحين كان المقسم به هو الليل (الملازم للفكر) جاء المقسم عليه من نوع الفعل والحركة: “السعي: سعيكم”. وهذا الأسلوب يحيل إلى الصورة الحلزونية للزمن في تمثلاته القرآنية.
علاقة “حركة الزمن” بحركة الحياة هي علاقة عضوية؛ ولقد خلق الله تعالى الوقت من أجل الإنسان، ثم جعله مقياسا لفكره وفعله؛ كما أنه تعالى “خلق الموت والحياة” ابتلاء، ومن أجل أن يختبر حركة الإنسان وسعيه: “ليبلوكم أيكم أحسن عملا”.
القاسم المشترك بين النهار والليل، وبين سورتي “الشمس” و”الليل”، في المستوى اللفظي، هو: “يغشاها-يغشى” بالنسبة لليل، و”جلاها-تجلَّى” بالنسبة للنهار؛ ومن ثم فإنَّ الوقت له بعدان أساسيان هما: التغشية (أي التغطية)، والتجلية (أي الإظهار). فالزمن يغطِّي فكر الإنسان وفعله من كلِّ جانب، تغطيةً شاملة لا منفذ منها ولا انقطاع؛ والزمن يجلِّي ويظهر ويفصح عن فكر الإنسان وفعله، حتى يبِين عن حقيقته.
في كلا الأمرين أي (الفكر) و(الفعل)، وكذا في العلاقة بينهما (الحركية)؛ معيارُ الصواب والخطأ، يعود إلى (الإيمان بالله، وإلى رضا الله) سبحانه، ولذا اعتمدت السورتان صيغا تحيل إليه تعالى شأنُه، ولا تحتمل له شريكا: “سوَّاها، فجورها، تقواها، أفلح، زكَّاها، خاب، دسَّاها…” هذا في سورة الشمس، أمَّا في سورة الليل فنقرأ: “خلق، اتقى، وصدَّق، فسنيسِّره، كذَّب، تولَّى…”. إضافة إلى أنَّ المقسِم هو ربُّ الجلالة وحده، ولا يجوز لغيره أن يقسم بالزمن، ولا بأيِّ مخلوق آخر، مهما علا شأنه وارتفع شأوه.
إنَّ “سؤال الأزمة” في “نموذج الرشد”، الذي هو عن “حركية الفكر والفعل”، مردُّه إلى “الرؤية الكونية التوحيدية”، ولا يستقيم هذا السؤال في سياق إلحاديٍّ ماديٍّ، إلاَّ بما يوفِّره من أجوبة على أسئلة المادَّة؛ أمَّا أسئلة الإنسان: خلقه، سعادته، مصيره، رضاه، حيرته… فمرجعها إلى “الإيمان بالله” وحده. ويثيرنا نهاية السورتين بالإحالة إلى المرجع والغاية والنهاية: فسورة الشمس ختمت بـ”فلا يخاف عقباها”، أي بالعقبى والمآل والمصير. وسورة الليل ختمت بـ”ولسوف يرضى”، أي بغاية وجود الإنسان التي تتلخَّص في اكتساب رضا الله تعالى، ونيل رضوانه: “ورضوان من الله أكبر”. ولا ريب أن سريان الزمن، واختلاف الليل والنهار، إذا لم يصطبغ بصبغة “رضا الله تعالى” فقَد معناه، وصار وبالا على صاحبه؛ ولنا في نبي الله موسى عليه السلام عبرة: “حيث كان في سباق مع الزمن، وهو يستعجل الذهاب إلى الطور، ويبتغي رضا ربه؛ فهو ينظر إلى الزمن على أنه “قيمة عبادية عالية”. أما سيدنا يوسف عليه السلام، فعلى النقيض من ذلك، سأل ربه أن يوقف عنه تسارع حركة الوقت، بأن ييسر له سبيل السجن الساكن الهادئ، والغايةُ هي ذاتها: “رضا الله تعالى”.