الذكر والاستغراق الزمني(مواساة لمن ابتلي بالوباء، والله تعالى هو الشافي)

وردت صيغة “بسم الله” في كليات الذكر، لترافق المسلم في بدايات كل شيءٍ؛ من أكبر عمل يباشره إلى أصغر فعل يأتيه؛ لا فرق بين أن يبدأ تلاوة سورة من القرآن ببسم الله، أو أن يأخذ لقمة من الطعام بيمينه ويقول بسم الله، أو يوقّع وثيقة تاريخية بين دولتين وأمَّتين ويبدأها ببسم الله.
ولقد وردت صيغة “ما شاء الله” للماضي، ولـِمـا تم تحقيقه؛ فالمسلم المخبت يقولها كلَّما عاين نعمة، أو مرَّ بإنجاز، أو أعجِب بفكرة أو مشروع، أو لاحظ نباهة طفل. وعند دخوله متجره، ومزرعته، ومدرسته، وبيته…
أمَّا “إن شاء الله” فهي للمستقبل؛ ذلك أنَّ المرء لا يملك بعد لحظته الآنية أيَّ ضمانة لتحقيق ما أراد؛ ولذا فهو بعد أن يتخذ الأسباب المباشرة التي أمره الله تعالى بها؛ يُرجع كلَّ شيء إلى الله تعالى، وإلى مشيئته وإرادته التي لا تتوقف على مشيئة غيره، ولا على إرادة مَن دونَه؛ قال تعالى: “وما تشاؤون إلاَّ إن يشاء الله”. ولقد ورد في الآثار أنَّ الله تعالى أوحى إلى دواد عليه السلام: “يا داود إنك تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد”.
فما شاء الله للماضي، وبسم الله للحاضر، وإن شاء الله للمستقبل؛ وبهذا يستغرق المسلم الذاكرُ جميع الأزمنة بذكرٍ خفيفٍ على اللسان، يسيرٍ على كلّ إنسان؛ ولكنَّ أثره على النفس، وعلى ذات الفعل، وعلى الآخرة… لا يحصيه إلاَّ الله الكريم جل جلاله.
ثم إنَّ الصيغ الثلاثة جاءت في القرآن الكريم؛ قال تعالى:
“لولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوَّة إلاَّ بالله”
“ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلاَّ أن يشاء الله”
“إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم”، “بسم الله مجراها ومرساها إنَّ ربي لغفور رحيم”.
يقول سيد حسين نصر: إنَّ “ما شاء الله”، و”إن شاء الله”، تترددان كثيرا في الحديث اليومي في عالم الإسلام؛ وتقصد الأولى ثقة المسلم في مشيئة الرب وتسليمه بعدم إمكان أن يتمَّ في الماضي إلاَّ ما أراده الله سبحانه وتعالى؛ وتقصد الثانية شرط المشيئة الربانية في المستقبل…
ولا يقول المرء: “إنَّ يوم الاثنين يأتي بعد يوم الأحد إن شاء الله”؛ ولكنه يقولها عن أحداث المستقبل التي لا تحكمها جهود الإنسان مهما عظُمت بدون عون الله تعالى ورضاه.
وأيا كان ما ندبر فلا ضمان لأن نوجد غدا هنا، أو في مكان آخر، على قيد الحياة؛ ولا أن نكون على الحال ذاتها؛ ولكننا نعمل وندبر ونحن واعون باعتمادنا على مشيئة الله سبحانه التي تتعالى على كل وجودنا”
*******
لا ريب أنَّ حالنا اليومَ في جميع المستويات والدوائر، من المحلي إلى العالمي؛ تفور وتمور؛ وأنَّ البشرية تعيش منعرجا تاريخيا؛ أقدِّر – حسن ظنٍّ في الله سبحانه – أنَّ الله تعالى أراده ليميز الخبيث من الطيب؛ وليُريَ الظالمين – الذين تحدَّوه وتألَّهوا بصور شتى – مصيرَهم؛ وهذا وعد من الله تعالى: “وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون”، “ولا تحسبنَّ الله غافلا عما يعمل الظالمون”.
والحاجة إلى الله إذا كانت في الظروف العادية عينية ضرورية؛ فإنَّها حين معاينة الخطر تكون أشدَّ وأوكد؛ ولا يقتصر الذكر على المؤمن أوان مباشرة الخطر؛ بل الكافر والمشرك – كما يقرر كلام الله تعالى – حين يتيقن من الهلاك يستنجد بالذكر ويهرع إلى نداء الله تعالى؛ ففرعون وهو الذي تأله وتحدى موسى في توحيده؛ حين أدركه الغرق “قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين”.
في حالنا اليوم، حيال الوباء والبلاء والفتن؛ لا بدَّ من العودة إلى الله، ومن تصحيح الإيمان، والاستغفار من المعاصي والذنوب، والإكثار من الطاعات والمبرات؛ مع اتخاذ أسباب التمكين والنصرة والاستخلاف؛ وعلى رأس العبادات الذكرُ، وهو يستغرق جميع الأزمنة والأوقات، وجميع المواقف والحالات؛ فلا يعرف الإنسان حالا لا يرافقها ذكر ودعاء؛ والله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد؛ فهل يسمح لنا أن نبتعد عنه، ونكون مثل العبد الآبق الضال الشارد؟
اللهم سبحانك، لك الحمد والشكر، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك؛ اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والفتن ما ظهر منها وما بطن؛ وانصرنا على أنفسنا وعلى أعدائنا، وارزقنا “عاما فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”، و”عمرا في الطاعة، والشكر والقناعة، والموت من غير ذنب ولا تَباعة”
آمين آمين
—————–
للعبرة ومواساة لمن ابتلي بالوباء، والله تعالى هو الشافي:
في العام المنصرم، في مثل هذا التاريخ، وفي ذات هذا المكان الذي أكتب منه المقالة اليوم؛ كنتُ أتقلب بين الموت والحياة، وقد ابتليت كما ابتلي الكثيرون مثلي بالحمَّى، وبضيق التنفس، وبالصداع… وبكل ما يوصف أنه من أعراض الكوفيد؛ ولم أجد ألذَّ ولا أنفع؛ ولا أحلى ولا أشفع من ذكر الله تعالى، مع اتخاذ الأسباب التي أمر بها سبحانه.
وكنت مشفقا على الكافر والمشرك الذي يصاب مثلي، ولكنه لا يعرف ربا ولا إلها ولا ملاذا يأوي إليه؛ بخاصة ممن لم تبلغه الدعوة في نصاعتها وكمالها وتمامها…
وكان إشفاقي وحسرتي على المنافق أشد وأبلغ؛ ذلك أن أعرض عن رب دعاه… ونافق في دين هداه…
أمَّا المؤمن فعجبٌ أمره: “إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”.

ألا ما أروع إسلامنا،
وما أحلى إيماننا،
وما أكرم ربنا… سبحانه وتعالى…

محمد موسى باباعمي
بني يزقن، باسة وافضل
السبت 15 ذو الحجة 1442ه/25 جويلية 2021م 

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

رمضان :: من موشور “علم البرمجة الزمنية”

بسم الله الرحمن الرحيم د محمد باباعمي علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *