مع اقتراب عيد الفطر المبارك، تعود مسألة الهلال، فتتصدر صفحات الجرائد والمجلات، وتكون حديث الخاص من الناس والعام؛ ويستوي في ذلك العالم المجتهد، وطالب العلم المقيد، والفرد المقلد.
ولعلَّ معالجة عميقة في أصل المسألة، يفيد في وضع الضوابط لكل مفت، وفلكي، وصحفي، ومسؤول وزاري أو عفي عن إعلان نهاية شهر رمضان وحلول شهر شوال؛ فيفطر الناس بعد صيام، ويعودوا إلى حالهم كامل العام بعد رحلة إيمانية في كنف “مدرسة رمضان”.
وتوصيف المسألة كالآتي:
أنَّ البعض يعتقد خطأ أنَّ العبادات تتحدَّد بدقَّة مطلقة، ويستشهد بنصوص من قبيل “المطلق” غير “المقيد”؛ “العام” غير “الخاص”؛ مع وجود نصوص أخرى أقرب إلى “الدليل”، وأكثر “صراحة” في بيان الحكم الشرعي، بلا تمحل ولا اختزال.
ولو أنَّ العبادات نيطت بالدقَّة المطلقة، لهلك أكثر الناس، ولكانت “تكليفا بما لا يطاقّ؛ بل لما استطاعها أحدٌ؛ لأنَّ الدقَّة المطلقة نظرية رياضية رقمية، لا تلائم الطبيعة البشرية، ولا تواتي طبيعة الشريعة السمحة، اليسيرة.
وبيان ذلك ما يلي:
العبادات محمولة على التسامح والتيسير:
قال الله تعالى: “يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر”
جاءت الآية في سياق “الصيام” وفيه من أنواع التيسير ما يدل على طبيعة شريعتنا من الرحمة والبسط والتسامح وعدم التشديد ورفع المشقة.
فمن أنواع التيسير في رمضان: التيسير على المريض” فيفطر ويقضي “عدَّة من أيام أخر”
والتيسير على الأزواج وقد كانوا يختانون أنفسهم، فتاب الله عليهم، وعفا عنهم، رحمة منه سبحانه، وقال: “فالان باشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم”.
والتيسير على الصائم فيعجل الفطور ويؤخر السحور، حتى نهي عن “الوصل”: “حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر”.
ثم التيسير على من شهد الشهر أن يصومه، حتى ولو لم يكتمل نصاب الشهادة، فلا يلزم غيره، ولا يلزمه غيره: “فمن شهد منكم الشهر، فليصمه”.
أوقات العبادات مقيسة بالجوارح:
لو تأملنا العبادات التي تشترط نوعا من القياس، سواء ما كان منها من مكاييل، أو أوقات، أو فترات ومدد… لوجدنا أنها مقيسة بما يتسنى لكل الناس؛ ولم يشترط فيها ما يكون حكرا على الخاصة من العلماء، أو الحكام، أو حتى ما يتفوق فيه بلد على بلد، أو عصر على عصر؛ من وسائل وتقنيات وتكنولوجيات، لا تزال تتطور إلى ما لا حدَّ له؛ ذلك أنَّ العبادات اكتملت قبل تلكم الوسائل، وصحت معها وبغيرها، وستصح بما بين أيدينا اليوم وبما يخترع في المستقبل.
ولذا كانت الأعداد اليسيرة، وقياسات الجوارح، وما يسهل على المتعبد إحصاؤه… كل كل ذلك كان هو المرجع في عباداتنا، ولله الحمد.
تحديد القبلة:
ليست القبلة “كوة” فيدخلها الناس، ولا نقطة رياضية فتتقاطع مع وجهة الناس، ولا هي هدف في الرمي فيشق على الناس؛ وإنما القبلة “شطرٌ” و”وجهة”؛ وهي مقيسة بجارحة الوجه: “فول وجهك شطر المسجد الحرام”
ومعلوم أنَّ “وجه” جارحة من جوارح الإنسان، وليس “آلة قياس” أو “رسما هندسيا”؛ وحتى لو وظف الإنسان “بوصلة” مثلا؛ فإنَّ البوصلة تحدد له النقطة بدقة، ولكنه حين يقوم إلى الصلاة، يولي وجهه نحو تلك النقطة، مع كثير من التسامح الرياضي؛ وإلا فإن خطأ واحدا مقيسا ببضع درجات في الزاوية، كفيل بأن يجعل الإنسان يتوجه – وهو في الجزائر – نحو المدينة المنورة عوض الكعبة في مكة المكرمة.
هلال الصيام أو العيد معين بالرؤية:
قال تعالى: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه” ومعلوم ما في “لفظ الشهود” من بعد ومن عمق؛ وكذا ما يقع فيه من حوار في الدلالة.
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”؛ فربط بين الصوم والإفطار وهما من أجل العبادات، وبين ثمرة لجارحة من جوارح الإنسان: “الرؤية”؛ وهي متفاوتة ما بين إنسان وإنسان، بل من منطقة إلى أخرى، ومن جغرافية إلى جغرافية مغايرة؛ ومن ظروف مناخية وظروف أخرى…
ومع ذلك، كانت الوسيلة للصيام أو الإفطار هي “الرؤية”، رغم ما في الرؤية من إمكان الخطأ؛ إلا أنََه “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”، و”إلا ما آتاها” ثم أتبع الآية بقوله: “سيجعل الله بعد عسر يسرا”.
والاستعانة بالحساب معتبر شرعا وعقلا؛ إلا أنَّ دور الحساب – كما يقرره جملة من الفقهاء الذين يعتدُّ باجتهادهم – هو النفي لا الإثبات؛ أي أنَّ الحساب في مقدوره أن يبث في الرؤية وأنها “غير ممكنة”؛ لكون الاقتران لم يقع بعدُ مثلاً.
أما حين تدخل الرؤية حيز الإمكان، مع الاختلاف الكبير في هذا الحد؛ فإنَّ التساهل والتسامح والتيسير هي السبل المشروعة للعبادة.
ولذا، كان التشديد على ضرورة جمع الناس على “يوم واحد” للصيام أو الإفطار غير ملائم لروح الشرع؛ وقد يكون سببا لما هو أكثر تأكيدا على الأفراد والأمة، من مثل: الوحدة، والتعاون، والثقة، ومراعاة الأعراض، وعدم التشديد والغلو، وترك التنطع والادعاء…
تحديد أوقات الصلاة:
ظل كل شيء مثله، ومقليه؛ منه ظل الإنسان نفسه، وهو مجمول جوارحه؛ أو ظل عود أو نحوه، وهو ثمرة للرؤية المجردة، أو التي يسندها حساب؛ ولا مشقة في ذلك.
وغروب الشمس ترى بالعين، وغياب الشفق للعشاء كذلك مما تقدره الجارحة؛ سواء أكان فجرا أم عشاء؛ وهو مبني على التسامح؛ لاختلاف المطالع، وكذا الأحوال الجوية المؤثرة على الرؤية.
التدقيق في أمور العبادة تنطع:
اليدان وهما من الجوارح بهما يقاس الكيل الشرعي للزكاة وللكفارة وغيرهما؛ وكل محاولة لحمل الناس على الدقة المتجاوزة لوسائل قياس الإنسان بلا آلة، تمثل خروج عن روح الدين، ومخالفة لمنطوق النصوص القطعية.
ومما ورد عن الشاطبي ما نقله محمد رشيد رضا في مقدمته، قال عن منهج الشاطبي:
“وكان يقول: لا يحصل الوثوق والتحقيق بشأن الرواية في الأكيال المنقولة بالأسانيد،
واختبرت ذلك فوجدت الأكيال مختلفة، متباينة الاختلاف، وهي ذوات روايات،
فالكيل الشرعي تقريبًا منقول عن شيوخ المذهب، يدركه كل أحد،
حفنة من البر أو غيره بكلتا اليدين مجتمعين، من ذوي يدين متوسطتين بين الصغرى والكبرى،
فالصاع منها أربع حفنات، جربته فوجدته صحيحًا. فهذا الذي ينبغي أن
يعوّل عليه؛ لأنه مبني على أصل التقريب الشرعي،
والتدقيقات في الأمور غير مطلوبة شرعًا؛ لأنها تنطُّع وتكلُّف، فهذا ما عندي”.
السمت هي الجهة لا النقطة (مفارقة الصف المستقيم):
في تراثنا العلمي الفكلي علم يسمى “علم السموت”، ولقد ألف فيه الكثيرون، منهم البيروني (ت. 440ه) له: ” كتاب تسوية البيوت في استعمال دوائر السموت”؛ و”تهذيب شروط العمل لتصحيح سموت القبلة”؛ ومنهم أبو نصر بن عراق (ت. 427ه) وله: “كتاب في السموت”؛ وللشطوي (النصف الأول ق4هـ/10م) كتاب “عمل الارتفاع والسموت”.
والسمت هو ” السمت هي الزاوية المقاسة من الشمال إلى الشرق بالدرجات”، حسب ارتفاع الكائن في الأفق؛ ومواز لخط العرض في الكرة السماوية.
وتحديد السمت ييسر معرفة القبلة، والظلال، والارتفاعات، ومواقع المدن، والملاحة…
يقول الشهيد الثاني زيد الدين العاملي: معرفة الوقت ص398: “انضباط استقامة الصف “الكتف للكتف، والقدم للقدم، يستوي الصف”
المبالغة في سؤال التفاصيل من عادة بني إسرائيل:
روى الإمام الطبري في تفسيره عن بني إسرائيل أنَّه لو أنهم “حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها؛ ولكنهم شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم” (تفسير)
وهكذا، حين أمرنا الله تعالى بالعبادات، وبناها على قانون التيسير والتسامح، مع التحري والاجتهاد؛ يكون لزاما علينا أن نقول: “سمعنا وأطعنا”؛ وأن نعبده سبحانه بما استطعنا؛ فلا ريب أنه تعالى لا يحمّلنا ما لا طاقة به، ولا يكلفنا فوق مقدورنا. ولكن، لو أننا – اقتداء ببني إسرائيل – سألنا الدقة المطلقة، وحملنا الناس عليها، فإنَّ الله تعالى سيشدد علينا، وسيبدي لنا أمورا تسوؤنا مصداقا لقوله جل جلاله في سورة المائدة: ” ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين“
وورد في سبب نزول الآية الحديث الذي رواه الإمام علي رضي الله، قال:
“لما نزل” ولله على الناس حج البيت” قال رجل: يا رسول الله أفي كل عام؟
فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
“ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه” فأنزل الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم”.
هي دعوة للاجتهاد في العلم، وتحري الدقة، مع اعتبار التيسير:
ليست دعوة لنبذ العلم بكل فنونه “الرياضيات”، و”الفيزياء”، و”الفلك”؛ وعلوم الرصد… بل العكس هو الصحيح؛ إذ على الخاصة، وخاصة الخاصة، أن يجتهدوا في توفير وسائل وتقنيات متطورة جدا، للتيسير على الناس في تحري الصواب في معرفة القبلة، والأوقات، والمكاييل… وغيرها؛ لكن شريطة أن لا يتجاوز المتخصص في هذه العلوم حده، وأن لا يسارع إلى تخطئة الناس، وإلى الإفتاء ببطلان عباداتهم، أو فسادها.
بل، وحتى مع الدقة المطلقة، معلوم أنَّ ما كان حسابا رياضيا يتسم بدقة عالية؛ ولكن مجرد أن يتحول إلى الفيزياء، يكون ثمة ما يعرف بالخطأ المقبول، ومنه ما يسمى “خطأ اختلاف المنظر” (erreur parallaxe)؛ سواء بالنقصان (par défaut) أو بالزيادة (par excès)؛ ولذا دائما ترد عبارة (زائد أو ناقض س) ويرمز لها بـ (±).
من تعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خطَّأه في التشريع كفر:
مصادر التشريع الأساسية هي القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة؛ والقاعدة أنه “لا اجتهاد مع النص”؛ وإنما وقع الاختلاف في تعيين الصحة، وتحديد الدلالة، وترجيح الحكم؛ لا في أصل التشريع، وفي كون التوحيد والفقه مرجعهما إلى القرآن والسنة؛ وتأتي مصادر تبعية لتنطلق منهما لتعود إليهما؛ وسواء في ذلك: الإجماع، والقياس، والاستصلاح، والعرف…
يقول القطب اطفيش في “شامل الأصل والفرع”: “أصول الدين هي القرآن والسنة والإجماع” ومن أنكر واحدا من الثلاثة الأولى أشرك؛ وهن أصل للقياس (ص9).
– “رسالة في أن رؤية الهلال لا تضبط بالتحقيق وإنما بالتقريب” للكندي
– “توزيع العبادات على مقادير الأوقات” المقدسي
د. محمد باباعمي
[1] – اخترت للعنوان صيغة كان يستعملها العلماء في العهد الذهبي للتراث الإسلامي، من أمثال الصوفي، والجغميني، والكندي، وابن سينا، والطوسي؛ وهي صيغة: “رسالة في كذا”. وهي غالبا ما تتناول موضوعا مباشرا، معلنا من العنوان.