(البناء الحضاري: من الزمن الكمّي إلى الزمن الكيفي)
فكر الشيخ محمد الغزالي عصيٌّ عن التصنيف، إنه فكرٌ “نسيجُ وحدِه”؛ فالشيخ عقلانيٌّ دون أن يكون مُعتزليًّا؛ مُنطلق من النصِّ دون أن يكون ظاهريًّا؛ مرتكزٌ على تراث السلف دون أن يكون سلفيًّا؛ منافحٌ عن التطور دون أن يكون حداثيًّا؛ حريصٌ على الانضباط العلمي دون أن يكون علمانيًّا…
إنه فكرٌ حرٌّ حرية الرجل، وهو “مرجعُ نفسِه”، لا يستسلم لما يرد عند غيره إلاَّ حين يقفُ حيال آية قرآنية، أو حديثٍ صحيح، أو فكرٍ إنسانيٍّ صريح؛ ذلك أنَّه مدرسة قائمة بذاتها؛ كاملةُ المعالم، واضحةُ الخصائص؛ تركت أثراً لا ينمحي في الفكر الإسلامي المعاصر([1])؛ لا، بل سطَّرت خطوطًا بيضاء وصفراء وحمراء لأجيالٍ ممتدَّة، كيما تسير على الطريق بهدى، ولا تحيد عن سواء السبيل فتدرك المدى.
وهو في مشربه الفلسفي ينحو نحو الواقعية والفاعلية؛ ولذا لا نقرأ له معالجة نظرية صرفة عن الزمن والوقت، إذ لا يعالج مواضيع من مثل “هل الزمن ذاتٌ أم عرضٌ؟”، “هل هو موضوعيٌّ أم ذاتيٌّ؟”، “وهل يدرَك بالعقل أم بالحواس؟”، و”هل للزمن وجودٌ حقيقيٌّ أم أنَّ وجوده اعتباريٌّ؟”، و”هل الزمن مطلقٌ أم هو نسبيٌّ؟”…
قد يحيل عرَضا إلى رأيه في مثل هذه المقدمات الفلسفية النظرية، غير أنه لا يتخذها موضوعا لكتاباته، ولا محورا لمحاضراته؛ فهو في علاقته بالزمن ضنينٌ بذات الزمن، يحمل همَّ الأمَّة، يبحث عن المخارج لسجنٍ طالما وقع فيه المسلم المعاصر، وينقد بشراسةٍ الأوهامَ التي تُستورد من الفكر الماديّ الإلحاديّ باسم التقدم والتطور، ولا وقت لديه للتقعيد ولا للتقعير.
والشيخ الغزالي يجهد نفسه، ويجتهد بفكره، ليصل العلمَ بالعمل، ولا يرى تعارضا بين الإسلام والعلم إلاَّ في مخيلة الضعاف المهازيل؛ وهو يقول: “من الفكاهات السمجة أن يقال للمسلم: دع دينك، فإنَّ العلم تقدَّم”([2])
ويلقي باللائمة على طائفة من المنسوبين إلى العلم وهم في جهلهم بدينهم سادرون، ويقول:
“هناك أناسٌ يسمَّون (علماء) بالإسلام، لا يعون من آيات القرآن – وهي ألوف – إلاَّ قليلا يعدُّ على الأصابع؛ ولا يفقهون في سنَّة الرسول وأحاديثه – وهي عشرات الآلاف – إلاَّ النزر اليسير، ومع ذلك فهم علماء!!.
فإذا ضممتَ إلى ذلك أنَّ العمل بالإسلام روح العلم، وأنَّ العلم والعمل كليهما لا يحسنه إلاَّ امرؤ مكتمل المشاعر، ناضجُ المواهب، وثيق العلائق بالحياة، نافذ البصر إلى الأحياء، ازددتَ اقتناعا بندرة الرجال الذين تصدق عليهم هذه الصفة الكبيرة”([3])
الزمن معرَّفا، والزمن مُعاشا
في كتاب “رقصة الحياة: زمن ثقافيٌّ، زمن معاشٌ” لإدوارد هول، يعرَّف الزمن بأنه “إحدى المنظومات الأساسيّة في الثقافة؛ والثقافة تنهضُ بدور بالغ الأهميّة لفهم الزمن بوصفه منظومة ثقافية”([4])؛ وفي “أصول البرمجة الزمنية” انتهيت في مشكلة تعريف الزمن إلى ما يلي:
“يقول أحد الفلاسفة: “عندما لا تسألني تعريف الزمن أعرفُه، وعندما تطلب منِّي تعريف الزمن أكتشف أنَّني أجهله”([5]) وهو بهذا يعبِّر عن سهولة إدراك الزمن، وعن صعوبة تصوُّره وحدِّه، وفي المقابل ثمَّة ما لا نهاية من الطرق التي يمكن أن يعرَّف الزمن بها”([6]).
أمَّا إذا توخَّينا تعريفا للزمن عند الغزالي وجدنا أنه “آيةٌ من آيات الله”، و”أنَّ العقل يعجز عن إدراك كنهه، وأنَّ الواحد القهَّار وحده يحيط بما ظهر منه وما خفي”، يقول:
“إنَّ الزمن آية يُعجز العقول كنهُها، وما نعرفه إلا بما يخلّفه في المادة من آثار؛ ولعلَّ سر الخلود والفناء مطويٌّ فيه، لا يعرفه إلاَّ المحيط بظواهره وخوافيه؛ “هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت، وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون“. والذي يجب أن نعقله أنَّ حياتنا هذه ليست سُدًى! وأنَّ الله أجلُّ من أن يجعلها كذلك. وإذا انتفعنا بمرور الزمن على خير وجهٍ سجَّلنا لأنفسنا خلوداً لا يناوشه الزمن بهرمٍ ولا بلًى … عند الرفيق الأعلى”([7])
الطاقات المعطلة، والتدين الفاسد
ألَّف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قبل ستين سنة كتابه المثير “الإسلام والطاقات المعطلة”؛ ولقد حمل المؤلِّف والمؤلَّف روح العصر والسياق؛ ويومها كانت بعض البلاد الإسلامية في فجر استقلالها، والبعض الآخر لما تستقل بعد، إذ لا يزال ليل الاستعمار يلقي بظلماته عليها؛ وفريق ثالث من بلادنا كان يعقد فيه الآمال العراض، وينتظر من بابه الخير العميم.
ولقد جاء الكتاب ليفضح “بُعدَ الشقة بين ما يجب أن يكون… وبين ما كان بالفعل” بين مبادئ الإسلام وواقع المسلمين. ذلك أنَّ التديُّن الفاسد، والإيمان المستهلَك “عطل أجهزة النفس الإنسانية الفطرية؛ أمَّا الإلحاد فقد أبقى هذه الأجهزة تتحرَّك، وإن طاشت حركتها حينا، وأخطأت غايتها حينا آخر” وبهذا العطل الذي هو أسوء من الطيش علل الغزالي تخلف المسلمين في القرنين الأخيرين. وهو يقرر بوضوح شديد أنَّ “التدين المنقوص حري أن ينهزم أمام أية عقبة ولو وثنية، إذا استطاعت هذه العقبة أن تستثير لحسابها ما في الإنسان من قوى وملكات”.
إنَّ الإيمان القويم ينضج الإنسان ويرقى به في عليين، غير أنَّ “الخباز الأحمق قد يدخل الأرغفة الطرية في الفرن ليقددها، فإذا هو يحرقها. ولقد كان اللفح الخفيف كافيا لإنضاجها؛ ولكنه تركها للنار حتى أتت عليها” وكثير من الدعاة إلى الدين، من مختلف الزوايا والحركات “أفلحوا في تكوين أجيال محترقة من زمان بعيد”. ومن صور الاحتراق أنَّ “العامي الذي يريد التوبة، يفكر أول ما يفكر في الانسلاخ عن الحياة، واعتزال الناس”؛ فهو بذلك ينال رطلا من الإيمان، ليخسر قنطارا من الإنسان، فتبهت إنسانيته أولا، ثم ينطفئ إيمانه تبعا.
ينقل إلينا الغزالي هذه الصورة من الإنسان المعطَّل، فيقول:
“عندما كنت مقيما في جبل الطور رأيت أعرابيا يصطاد من البحر الأحمر، رأيته رمى بسنارته، فلما اشتبكت بها سمكة تبلغ الأقة، قرت بها عينه، فطوى خيطه وانصرف.
قلت له: لم هذه العودة السريعة؟
قال: هذا يكفي.
فأجبته: إن هناك الكثيرين يودون أن تصطاد أكثر، وأن يشتروا منك ما زاد عن حاجتك.
فهزَّ رأسه ومضى”.
ثم يعلق المؤلف قائلا: “إنَّ طول الحياة وعرضها في عينه لا يتجاوز شبرا في شبر، هما طول بطنه وعرضه”.
فهذا الإنسان العاطل فاقد للأفق الرحيب، فاقد للمعنى الحقيق، فاقد للإيمان الحي؛ هو إنسان ذليل حقير كَلٌّ، يرضى من الحياة أن تحشره عبدا مملوكا، في زمرة الغنم والإبل والدواب؛ ولا يسأل في الحياة أن يكون السيد الآمر الناهي، والموجه لحركة الحياة والكون، ودواليب السلطة في دنيا الناس.
واليوم، لو عدنا إلى جبل الطور بعد ستين عاما، لألفينا ذلك الأعرابي لم يبرح مكانه، فقد يكون هو نفسه قد شاخ ومات، ولكن نجد ابنا له أو حفيدا خلفه في ميراث السنَّارة، وقد ألقى بها في البحر الملوث؛ ولا ريب أننا سنجد بين يديه هاتفا محمولا، وهو الغارق بين صفحات الفايسبوك، أو متحدثا مع ناس من خلال الوات ساب، أو متنقلا بين مواقع بعضها فراغ وكثير منها فساد، أو ملتقطا لنفسه صورا ليرسلها للعالمين؛ ونشك أن يستطيع هذا المعطل اصطياد تلك السمكة، وإنما هو “القاعد الطاعم الكاسي”.
ونتساءل على إثر هذا المشهد: ترى هل يحمل قلب هذا الشاب ذرَّة من إيمان؟ وأيَّ إيمان هذا الذي يفقده طعم الحياة ويُنسيه معنى الممات؟ بل، وأين تعلَّمه واكتسبه؟ وفي أيِّ حلقة أو مدرسة تلقَّى تعاليمه ومبادئه؟ وكيف يجدده يوميا؟ وهل المنبر والمحراب باتا يستجيبان لحاجاته النفسية والثقافية، ويجيبان على أسئلته الحائرة؟ وهل وسائل الإعلام في بلاده، بمختلف أشكالها وألوانها تأخذ بيده إلى سماء التوحيد الخالص؟ أم أنها، هي التي تشوه البقية الباقية من الفطرة في ضميره الكليل العليل؟
الصورة الإدراكية وإدراك الزمن
حين يعالج العقلُ موضوعا مجرَّدا، تخونه الألفاظ والعبارات بالضرورة، فيؤول إلى الصورة الإدراكية، ويستدرج الخيال بالمجاز والرمز؛ ليعبر بذلك عن مكنون نفسه([8])؛ ومِن أكثر المواضيع تجريدا في الماهية، وتجسيدا في الأثر، فكرة الزمن “فالزمن آية يعجز العقولَ كنهُها، وما نعرفه إلاَّ بما يخلّفه في المادة من آثار، ولعلَّ سرَّ الخلود والفناء مطويٌّ فيه، لا يعرفه إلاَّ المحيط بظواهره وخوافيه” أي الله سبحانه وتعالى الذي “أحاط بكل شيء علمًا” (سورة الطلاق: الآية 12) ([9]).
والزمن مبثوث في مؤلفات الشيخ الغزالي، غير أنَّ ثلاثة عناوين منها هي المصدر الأساس والمباشر؛ وهي “خلق المسلم”، و”جدد حياتك”، و”فن الذكر والدعاء”.
وبتتبعنا للعناوين التي عالج فيها الزمن والوقت؛ أبرزنا جملة من الصور الإدراكية، وهي مجتمعةً تفصح عن النماذج الكامنة والظاهرة، وعن “النماذج الإدراكية” (البراديمات) التي ترسم خريطة الزمن والوقت عند الشيخ الغزالي؛ ومن أبرز الصور الإدراكية، نسجل ما يلي:
- الزمن ثروة، وهو رأس مالك: إنه “أنفس ما يملكه الإنسان”؛ ولذا وجب “على العاقل أن يستقبل أيامه استقبال الضنين للثروة الرائعة”. ويقول “إنَّ عمرك رأس مالك الضخم، ولسوف تُسأل عن إنفاقك منه، وتصرفك فيه” وهو يستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟” (رواه الترمذي، باب القيامة).
- العمرُ مهما طال كأنه يوم واحد: وهي صورة إدراكية قرآنية، استدلَّ لها الشيخ الغزالي بآيات ثلاث، منها قوله تعالى: “ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلاَّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم” (سورة يونس: الآية 45)
- الزمن طريق طويل يسير فيه الإنسان حثيثا إلى الله: ذلك أنَّ “كلَّ دورة للفلك تتمخَّض عن صباح جديدٍ، ليست إلاَّ مرحلة من مراحل الطريق الذي لا توقُّف فيه أبدًا”.
- حركة الزمن وخداعُ البصر: قد يخدع الإنسان إدراكُه ويحسب نفسه “واقفا والزمن يسير؛ إنه خداع النظر، حين يخيَّل لراكب القطار أنَّ الأشياء تجري وهو جالس؛ والواقع أنَّ الزمن يسير بالإنسان إلى مصيره العتيد”، يقول شاعر: يسرُّ المرءَ ما ذهب الليالي***وكان ذهابهنَّ له ذهابًا
- الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك: هو مثلٌ وصورة ذهنية متكررة في التراث البشري؛ ولقد وظفها الشيخ الغزالي، ثم جعل “من دلائل الإيمان، وأمارات التقى، أن يعيَ المسلم هذه الحقيقة، ويسير على هداها”.
- الأوقات رسمٌ خطه جبريل عليه السلام مرسلا من رب العزة سبحانه: عبر الشيخ عن هذا المعنى بقول: “والمقرر في الشريعة أنَّ جبريل نزل من عند الله ليرسم أوائل الأوقات وأواخرها، ليكون من ذلك نظامٌ محكمٌ دقيق يرتب الحياة”.
- الزمن يبلي الخلائق ولا يبلى: إنَّ الزمن بما وهبه الله تعالى من خصائص بها “يغضن الجباه، ويطوي الآجال، ويفني الحضارات”.
- الزمن فرصة ولم يخلقه الله تعالى عبثا: إنه فرصة بها تتيقظ النفوس الكبيرة “لفعل الخير، وإسداء المعروف، وادخار ما يجدي”.
- الزمن عبرة للمؤمن يغفل عنها المنافق: والمتأمل في أصناف الناس في الحياة يجد أنَّ السفهاء منهم “تمرُّ به الأحوال الحسنة والسيئة فلا يستفيدون من اختلافها شيئا” وما أروع الاستشهاد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقلَه أهلُه، ثم أرسلوه، فلم يدر لـِم عقلوه، ولم يدر لـِم أرسلوه” (شعب الإيمان للبيهقي).
- كلُّ يوم هو خَلقٌّ جديدٌ وما سواهُ إمَّا ماضٍ قد فات، أو مستقبلٌ في حكم الغيب: بغض النظر عن الجدل الفلسفي الذي يناقش الحاضر: هل له وجود حقيقيٌّ أم وجود اعتباريٌّ؟ وهل الحاضرة زمن معيَّن أم هو مجرَّد خط فاصل بين الماضي والمستقبل؟ يعالج الشيخ الغزالي الحاضر في مقال بعنوان “عش في حدود يومك”؛ ويستدلُّ لهذا بآيات، وأحاديث، وبما ورد في كتاب دايل كارنيجي “كيف تكسب الأصدقاء”. وهو يصور اليومَ خلقا جديدا، ويحيل إلى حديث “من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها” (رواه البخاري) وإلى أثر نسب إلى الخليل إبراهيم عليه السلام، أنه عند طلوع الصباح يقول: “اللهمَّ هذا خلق جديد فافتحه عليَّ بطاعتك، واختمه لي بمغفرتك ورضوانك…” ([10]).
مضيعات الوقت، توافه قد يُستهان بها
“علم مضيعات الوقت” من العلوم التي تطورت في حقل “علم إدارة الوقت”، ومن أشهر من كتب فيه “إليك ماكينزي”، الذي عنون مؤلفه بـ”مصيدة الوقت”([11])؛ وقد عالج فيه مظاهر تضييع الوقت في العمل، واختار عشرين نموذجا اعتبرها أهمَّ ما يبدد وقت المدير، منها: الإدارة بالأزمات، والهاتف، والزوار المفاجئون، وانعدام النظام، والتسويف…
والشيخ محمد الغزالي يلج إلى هذا المجال ذي الأهمية القصوى من مداخل عديدة؛ ومن أبرز الفصول التي كتبها في هذا ما جاء في كتاب جدد حياتك، ضمن عنوان: “لا تدع التوافه تغلبك على أمرك”.
ذلك أنَّ الإنسان غالبا ما يكون هيابا من الأمور الكبيرة فيتحاشاه، إلاَّ أنَّ أكثر الناس يستهينون من صغائر الأمور حتى ترديهم، وتكون سببا لهلاكهم بفعل التراكم. ويضرب لهذا المعنى صورة بليغة فيقول: “إنَّ المرء الذي يشفق على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم – لوضوح خطرها – قد يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها، تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيد ملوثة، أو ما شابه ذلك”.
والشيخ الغزالي يحيل إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يرسي قواعد السلوك الكامل، ويقول: “أمَّا بعد أيها الناس إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم” (الترغيب والترهيب للمنذري).
ومن حسن السياق نلاحظ أنَّ هذا التحذير جاء بعده تحذير آخر عن النسيء([12])، وهو من المعضلات الزمنية عبر التاريخ الغابر، ولا يزال معضلة حتى في التاريخ المعاصر؛ ثم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ما يعرف بـ”استدارة الزمان”؛ فقال: “وإنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنَّ عدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حُرم …” (الترغيب والترهيب للمنذري).
وذكر الشيخ الغزالي حديثا آخر، قد يكون أصلا من أصول “علم مضيعات الوقت”، ذلك أنه عليه السلام صاغ مثالا مما ألفه الناس، تدركه العقول بكل مستوياتها؛ فقال: “إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثلُ محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم؛ وإنَّ محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه”([13]).
ثم إذا رمنا العلاج من معضلة التوافه والصغائر “المهلكة” سواء في أفعال العباد، أم في مجال الوقت والزمن، أم في غيره؛ فإنَّ أروع صورة رسمها الشيخ قوله: “والعلاج… صقلُ مرآة الذهن بحيث تلتقط صورا حقيقية لما تحفل به الحياة، صورا لم تفسدها المبالغة، ولم يشوهها الهوى”.
وإذا عنَّ لي أن أستشهد بمثال من واقع الحياة، فإني أجد الجلوس إلى التلفاز أو الارتباط بالأنترنت، غالبا ما يكون من هذا القبيل؛ فهو يبدو للواحد منا غالبا من بدهيات الحياة المعاصرة، وأنَّ كلَّ الناس في هذا الزمان يفعلون ذلك؛ ثم تجتمع الأوقات التي يقضيها أمام الشاشة متنقلا من قناة إلى أخرى، أو من موقع إلى آخر؛ فإذا ما جمع الأرقام الصغيرة، أو ما يعرف بـ”ما بعد الفاصلة”، مع مرور الأعوام، وجد أنه ضيع الكثير من وقته، ولم يستفد شيئا جراء ذلك. ولقد ألف محمد الصباح سلسلة موجهة للأطفال بعنوان: “سر سارق الوقت”([14]).
وعن أهمية الفاصلة وما بعد الفاصلة، كتبت مقالا بهذا العنوان، مما جاء فيه: “قد نستخلص معنًى وقاعدةً في فهم الحضارة، وهي أنَّ الرقم، بغضِّ النظر عن كبره وصغره، هو وليد ما قبله وما بعده، أي هو أثر من آثار سياقه؛ فمَا بعد الفاصلة، مهما كان يسيرا، إذا كان ضمن “مشروع”، و”مخطط”، و”برنامج”… فإنه يصير هاما ونافعا ومؤثرا وذا قيمة كبرى؛ أمَّا الرقم الآخر، حتى ولو كان كبيرا جدًّا، وكان قبل الفاصلة، إذا افتقد السياق والمعنى، فإنه يصير هباء، ويفقد قيمته، وتذهب ريحه، وهو بذلك قليل وحقير. فانظر أخي أين تضع ذاتك، وفكرك، وطاقتك، ومالك… أبعد الفاصلة أم قبلها؟”([15]).
الفراغ، وآفات الفراغ
“علم اجتماع الفراغ”([16]) (Sociology of leisure) علم يعنى بـ”كيفية تنظيم الناس لأوقات فراغهم”، وهو مكمّل لعلم آخر هو “علم الاجتماع الصناعي”، وكذا “علم الاجتماع الثقافي”؛ ذلك أنَّ كلَّ علم من هذه العلوم يعالج مظهرا من مظاهر علاقة الإنسان بالوقت، سواء أكان فكرا وثقافة، أم عملا ووظيفة، أم راحة وفراغا.
والشيخ في فصل “آفات الفراغ” من كتاب “جدد حياتك”([17])، يعطي للفراغ مدلول العطل، وليس المدلول المألوف في هذه العلوم، أي الراحة بأنواعها؛ ولذا راح يحاربه ويشنع على أصحابه بشراسة، فيقول: “في أحضان البطالة تولد آلاف الرذائل، وتختمر جراثيم التلاشي والفناء” ثم يضيف: “إذا كان العمل رسالة الأحياء، فإنَّ العاطلين موتى”، أي أنَّ الفراغ هو العطل وعدم العمل، وهو الكسل والقعود عن المهام الكبرى للحياة.
ثم راح يصف مخاطر الفراغ إلى أن يقول: “إنَّ شحن الأوقات بالواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل آخر، ولو من عمل مرهق إلى عمل مرفه، هو وحده الذي يحمينا من علل البطالة، ولوثات الفراغ”.
ولإنَّ الفراغ من الأمراض المزمنة التي نخرت جسم الإنسان الشرقي في عصرنا، قال الشيخ: “إنَّ الفراغ في الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب، ويخفيها وراء ركام هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تختفي المعادن والذهب في المناجم المجهولة”.
الأزمنة الثلاثة في فكر الغزالي
تعرض “مفهوم الزمن في القرآن الكريم” – بشيء من التعمق – إلى العلاقة بين الإنسان والأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ ومما ورد في مستهل هذا الفصل: “إذا قلنا عن الإنسان إنه حيوان تاريخي؛ فلا نعني بالتاريخ معناه الضيق، وإنما نقصد به أشمل المعاني وأوسعها، وذلك حين يكون لفظ التاريخ مرادفا للفظ الزمن؛ وبالتالي نتجاوز فنقول: إنَّ الإنسان حيوان يعي زمنه؛ ذلك أنَّ كلَّ الموجودات المخلوقة متزمنة، ولعلَّ الإنسان هو وحده الذي يعي الزمن بأبعاده الثلاثة”([18]).
والشيخ الغزالي يرسم العلاقة بالماضي في فصل له بعنوان: “لا تبك على فائت” من كتاب جدد حياتك؛ وعن العلاقة بالحاضر كتب “عش في حدود يومك”؛ وفي كتاب “الإسلام والطاقات المعطلة” شرَّح الشيخ معضلة فقدان الأمل في المستقبل بما لا يدع مجالا للتعقيب.
الماضي:
إنَّ التاريخ لا ينفصم عن الزمن، فلكل شيء ماضٍ هو بعض منه، والإنسان أكثر تعلقا بماضيه، ذلك أنه يبني معارفه على التراكم، وعلى التذكر، ولذا فإنَّ “البصر الذي ينفذ في أعماق الماضي، يستقرئ أنباءه، ويتعرَّف مواعظه، ويتزوَّد من تجارب السابقين بذخر يجنبه الزلل، هو البصر المؤمن الحصيف. وفي هذا يقول الحق جلَّ اسمه: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان بسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (سور الحج: الآية 46)“.
غير أنه ليس كلُّ عود إلى الماضي محمود “فالعودة إلى الأمس القريب أو البعيد لنجدد حزنا، أو ننكأ جرحا، أو ندور حول مأساة حزت في نفوسنا لنقول: ليت، ولو. فإنَّ هذا ما يكرهه الإسلام، وينفر من التردي فيه”([19]).
وفي كتاب “مستقبل الإسلام خارج أرضه” كتب الشيخ الغزالي فصلا عن أهمية الماضي ودراسته والاعتبار به، واختار له عنوانا: “أهملنا تاريخنا”، ومما جاء فيه: “إنَّ ماضينا بشعبه الثلاث لا يدرس الآن”، “المعاهد التقليدية عندنا لا تعرف شيئا عن تاريخ الحضارة الإسلامية، وفاقد الشيء لا يعطيه”([20]).
الحاضر:
الحاضر هو “الشريحة الذهبية للزمن” ذلك أنه محطُّ الإرادة، ومحلُّ المكابدة، والزمن الوحيد الذي تملكه وتقدر على التأثير فيه؛ وذلك باتخاذ الأسباب التي توصل إلى الخير، وتجنب الأسباب التي تردي إلى الغيْر. ولذا “فمن أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله”([21]).
والعيش في حدود اليوم، وفق الأسباب المشروعة، يتسق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” (رواه الترمذي).
غير أنَّ استغلال العمر، واستثمار كل ساعة منه، إنما هو بتوفيق من الله تعالى “وإنه لمن فضل الله ودلائل توفيقه أن يلهم الرجل استغلال كل ساعة من عمره في العمل”([22]).
المستقبل:
المستقبل هو الأفق الذي يتوقعه الإنسان بالعقل، ويتلمَّسه بالعين؛ ولا يطؤه بالرجل، ولا يلمسه باليد؛ والمستقبل مستقبلان: دنيوي وأخروي([23])؛ أمَّا الأخرويُّ فهو غيب مطلقٌ، وأمَّا الدنيوي فغيب نسبيٌّ.
وفي الأثر: “العبد المؤمن بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي([24]) لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته([25])، ومن الشبيبة قبل الهرم، فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إِلاَّ الجـنَّة أو النار”([26]).
وللغزالي كتاب عن “مستقبل الإسلام” تتبَّع فيه حال الإسلام خارج ديار المسلمين التقليدية؛ وكيف أنَّ المسلمين انهزموا نفسيًّا، وانهزموا علميًّا… ولم يقدروا أن يجعلوا دينهم متقبَّلا في العوالم الجديدة؛ وإذا ما اعتنق بعض العلماء الإسلام في الغرب، فما ذلك بسبب اجتهاد أصحابه، وإنما بقوَّة الإسلام الذاتية؛ أي بقرآنه، وعقيدته، وسنته، وسيرة رسوله، وتشريعه، وأخلاقه…
وفي كتاب “الإسلام والطاقات المعطلة” كان الشيخ مهموما بحال الأمَّة؛ وتساءل عن مستقبل هذا الدين؛ في ظل المعطيات المعاصرة؛ وقال: “إنَّ أمما شتى بدأت تغزو الفضاء بعدما انتصرت على الأرض. على حين أنَّ جماهير المسلمين – بعد رقاد طويل – شرعت تفتح عينيها لترى أين تضع قدمها، في أوائل الطريق الطويل: كيف جمدت هذه الأمة؟ وكيف تنطلق؟ وعلى من تقع التبعية؟([27])
ولقد عقد فصلا مطولا في هذا الكتاب بعنوان “دين المستقبل”، ومما جاء فيه: “على الإنسان أن يحدد غايته، ويرسم طريقته، ويمضي في سبيله لا يلوي على شيء، حتى ينتهي عهده بهذه الحياة، ليبدأ عن الله حياة أوكى وأسمى”([28]).
وإذا ما عرفَ “علم المستقبليات” سيناريوهات، بعضها يوصف أنه “أسود”، وبعضها يوصف أنه “وردي”؛ وما بين هذا وذاك تتراوح الرؤى الكونيةُ، والبراديماتُ، والمناهجُ؛ والشيخ الغزالي رغم كونه ناقدا وناقما أحيانا؛ إلاَّ أنه يميل إلى التفاؤل، يقول: “إني أنظر إلى الحياة من نواحيها الباسمة، وأبحث عن الجوانب المضيئة فيها، كي أتشبث بها وأوسع آفاقها”([29]).
ولقد أحال الشيخ في حوار له إلى مستقبل الإسلام، بناء على الخبر الغيبي، الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ثوبان رضي الله عنه، قال: “إنَّ الله زَوَى لي الأرضَ، فرأيت مشارقَها ومغاربَها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها” (رواه مسلم). وبحديث: “ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار” (رواه أحمد). ويشترط لبلوغ هذا المقام شرطا، وهو أن لا يكون أمر المسلم فُرطا، وأن لا يطيع من كان أمره فُرطا؛ مستدلا بقول الله تعالى: “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا” (سورة الكهف: الآية 28) ([30]).
القرآن والزمن
عقد الشيخ الغزالي في كتاب “كيف نتعامل القرآن الكريم” فصلاً اختار له عنوانا: “القرآن والزمن”. وقد دافع فيه عن خلود القرآن الكريم، فقال: “قدرة القرآن على عطاء الزمن دليل على خلوده، فالقرآن لا تنقضي عجائبه”؛ وكل عصر يجد في القرآن الكريم ما يجيب على أسئلته الحائرة في الآفاق والأنفس؛ وإذا حصرنا فهم القرآن على جيل معين دون غيره “فإننا نخشى… أن نحاصر القرآن، ونلغي خلوده”.
ثم إنَّ المسلمين أجمعوا أنَّ القرآن الكريم “من ناحية الطول يستغرق الزمن كله، بل يتعدى الزمن”. والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق ورتل؛ كما كنت ترتل في الدنيا. فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرأ بها” “فكأنَّ القرآن امتداد للزمن تجاوز هذه الحياة، إلى أنه سيقرأ في الجنة”.
ثم يضيف الشيخ الغزالي أنَّ امتداد القرآن من ناحية العرض “يشمل الأجناس كلها”.
فثمة إذن امتداد بالطول، وامتداد بالعرض؛ وهذا مفهوم بديع للزمن، لعلَّ الشيخ الغزالي أبدعه وتفرد به؛ وهو مستنبط من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
ويوعز سبب خلود القرآن الكريم لكل زمان ومكان، وامتداده طولا وعرضا إلى “المرونة العجيبة” في المعاني؛ مرونة تسمح لكل جيل، حسب مداركه ومستوى العلم عنده، يقدر على فهم الآية، وعلى تمثل معانيها، بسلاسة وارتياح([31]).
البرنامج الزمني للرسول الأسوة محمد صلى الله عليه وسلم
البرنامج الزمني للرسول صلى الله عليه وسلم مما وجب الاعتاء به، ولقد ألفت فصلا في “أصول البرمجة الزمنية” في هذا الشأن، وكان عنوانه: “أصول البرمجة الزمنية من خلال السنة النبوية”؛ اعتنيت فيه بصياغة قواعد البرمجة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي جليلة عميقة لا نظير لها في الفكر البشري، ولا في الممارسة اليومية للناس؛ ثم تتبعت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستخرجا إنزاله الأعمال على الأزمان؛ وقسَّمت اليوم إلى خمس مراحل؛ في كل مرحلة أنزل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فيه، أو يأمر بفعله فيه([32]).
وأنا مقتنع إلى اليوم أنَّ البرمجة الزمنية النبوية فنٌّ رفيع، يحتاج إلى جهود فكرية ومعرفية وتربوية معتبرة؛ لكي يتمثل للناس “أسوة” و”قدوة” لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، “مثالا” و”أنموذجا” لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورا؛ ونحن مقصرون في حقه عليه السلام، وهو نقطة الجمع وسر حركة بني البشر في دواليب الحياة؛ فأنى للمحدود أن يدرك ما ليس محدودا؟
وفي كتاب “فن الذكر والدعاء” ألَّف الغزالي فصلا في هذا الفن، اختار له عنوانا: “أربع وعشرون ساعة من حياة عريضة”، ويقصد بها حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: “إنَّ فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم وحده الذي أصاخ إلى صوت الصارخ المهيب بالبشر: أن يمزقوا حجب الغفلة، وأن يتوبوا إلى الملك القدوس”([33]). ولا تكون التوبة إلاَّ بملء اليوم ذكرا وفكرا، حركة وعملا صالحا.
ويواصل الشيخ الغزالي في عرض أسرار البركة التي غمرت حياة الرسول صلى الله عليه، ومن ذلك أنَّ ليله كان للعبادة إلاَّ قليلا، وعنون ذلك بـ”ليل أبيض”([34]). وقال: “إنَّ النبي العابد صلى الله عليه وسلم يبدأ بالليل مرحلة جديدة من مراحل الإقبال على الله”([35]).
الأزل والأبد وحقيقة الحياة
بأسلوب أدبي رفيع عالج الشيخ الغزالي مسائل الخلود والفناء، والأزل والأبد، والحياة وما بعد الحياة؛ وذلك في العديد من مؤلفاته، وفي مقدمتها: نظرات في القرآن الكريم، وعقيدة المسلم، والتفسير الموضوعي… وغيرها.
يقول متأملا حقيقة الحياة: “قبل أن نأتي إلى الحياة الدنيا، كم سيقتنا من عصور؟ وبعد أن نغادر هذه الحياة، كم ستعقبنا من أجيال؟ وما نسية هذا العمر المحدود بين ما سبقه وما لحقه من أزمنة؟”.
ثم يجيب: “إنه قليل قليل، ولكن من هذا القليل الممنوح لي ولك، تتكون الحياة الدنيا”
غير أنَّ الغرور يحول نفسية صاحبه في إحساسه بحقيقة الحياة، وسر الفناء، حتى إنه “يخيل إليه أنه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد”.
وهو كذلك يتفكر في الموت بروح قرآنية عالية، ذلك أنَّ الموت “قسيم للنوم”؛ ثم يقرر أنه “لو فهمنا تلك الحقيقة لما اكترثنا للموت، ولما تهيبنا الإقبال عليه، ولما شعرنا بالتوجس من بوادره وبواطنه”([36]).
البرنامج اليومي للشيخ محمد الغزالي
ليس للشيخ محمد الغزالي مذكرات مفصلة بالمعنى الأدبي للمذكرات، وإنما ثمة شذرات مبثوثة نشرت على شكل كتاب، لا يحمل التفاصيل الكافية التي تمكننا من استنباط البرنامج الزمني للشيخ؛ ولقد يسَّر الله تعالى، ضمن ملتقى الشيخ الغزالي، أن التقيت بالدكتور محمد جعيجع، وهو الذي كان مرافقا وأمينا للشيخ الغزالي حتى بيته، حين كان في الجزائر لسنوات؛ وسألته عن نوم الشيخ، وعن استيقاظه، وعن رياضته، وورده اليومي، وقد علاقته بالوظيف في الجامعة، وعن استقباله للناس في بيته… أي عمَّا يشكل جزئيات البرنامج اليومي للشيخ الغزالي؛ ولقد استفدت منه ما يلي:
- يقوم الشيخ من النوم وقت السحر، ويصلي ركعات قيام الليل، وهو مداوم على ذلك.
- ثم يصلي الفجر والصبح.
- ثم يخرج من بيته إلى الحديقة (الجنينة) ليمارس رياضة المشي، وهو يتلو القرآن في ذات الوقت.
- ثم يجلس للتأليف قبل شروق الشمس، وهو وقته المفضل، وإلى ما بعد الشروق غالبا.
- ثم يفطر، ويتوجه إلى الجامعة، مشيا أحيانا، وبالسيارة أحيانا.
- وهو أول من يدخل الجامعة، على الساعة السابعة صباحا في أغلب الأوقات.
- يعمل في الجامعة مدرسا، ومشرفا، وموجها، ومستقبلا للوفود العلمية… إلى غاية الظهر.
- يعود إلى البيت، ويصلي الظهر، ثم يتغذى، وينام القيلولة نوما خفيفا.
- ثم يقرأ أن يؤلف إلى العصر.
- بعد العصر يتقبل الضيوف في بيته، وأحيانا تستمر الجلسات إلى وقت العشاء، قال الشيخ جعيجع: “الحق أنَّ كثرة الزيارات تتعب الشيخ، وهو يتحملها ويقبلها بصدر رحب، رغم أنها تلتهم من وقته الكثير، وهو حيي لا يرد أحدا، حتى ولو كان طالب علم، أو زائرا متطفلا”.
- بعد صلاة العشاء، يتعشى، وينام مبكرا نسبيا، بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من وقت العشاء.
ثم يذكر الدكتور جعيعج أنَّ كتابة المقالة عند الغزالي فن جدير بالدراسة؛ فهو يكتب جميع مقالاته في صفحة واحدة، مهما كان الموضوع، يسترسل ولا يتردد ولا يمحو؛ يبدأ من أعلى الصفحة “بسم الله الرحمن الرحيم” إلى أن يوقع أسفل الصفحة “محمد الغزالي”؛ ويكون قد استوفى الموضوع حقه ومستحقه، وقد تجنب الإطناب الممل، والاختصار المخل.
أمَّا حين يسجل حصة تلفزيونية، وحديث الاثنين مثالا؛ فهو آية في ضبط الوقت؛ يبدأ درسه، ولا ينظر إلى ساعة؛ وحين تدق ساعة الانتهاء، دون أن يذكره أحدٌ، يرتب جلوسه، ثم يقول: “وصلى الله على سيدنا محمد”؛ وينهي الدرس في أجله المبرمج له.
زمن القرآن الكريم في يوميات الشيخ الغزالي
لسائل أن يسأل من الناحية العملية: ما مقدار الوقت الذي يستغرقه الشيخ الغزالي مع كلام الله تعالى يوميًّا؟ هل لديه أوراد مخصوصةٌ؟ ما مدى التزامه بها إن وجدت؟ وإذا لم تكن له أوراد مخصوصة، ما البديل وهو الذي دعا وألف في ضرورة تعلق المسلم بكتاب الله تعالى علما وعملا؟
يذكر الشيخ الغزالي في محاضرة صوتية له أنَّه في صلاته يتلو القرآن من الفاتحة إلى الناس، ويبدأ في كل صلاة من حيث انتهى في التي قبلها؛ ولا فرق بين صلاة الفرض والسنة والنافلة.
ويذكر في محاضرة أخرى أنَّ له ثلاث قراءات في اليوم: الواحدة للحفظ، والثانية للأداء، والثالثة للفهم؛ وهو مع ذلك حريص في دروسه، وفي عمله اليومي، أن يتمثَّل القرآن الكريم عملاً؛ وبالتالي فهو يجتهد أن يكون “خلقه القرآن” كما ورد عن أمّنا عائشة رضي الله عنها في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكني لم أعثر على نص فيه ذكر لورد يومي معلوم للشيخ؛ ولعلَّ معارفه وطلبته الذين لازموه يشهدون بشيء من ذلك، ولكن يقينا لو وجد فإنَّ الشيخ يلتزم به، ذلك أنه حريص كلّ الحرص على العقود، والأيمان، والنذور، وسائر ما حمَّل نفسه به.
يقول في مقدمة “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم”: “قد لا زمني شعور بالقصور وأنا أمضي فيها، فشأن القرآن أكبر من أن يتعرض له مثلي، ولكني حريص على أن أزداد فقها في القرآن وتدبرا لمعانيه”([37]).
وحين ذكر الشيخ الغزالي فضل الله عليه أن هداه للقرآن قال: “لقد صحبتُ القرآن من طفولتي، وحفظته في سن العاشرة، وما زلت أقرؤه وأنا في العقد الثامن من العمر”([38]).
ثم أردف قائلا في نص أوسع مدى، وأكثر تفصيلا: “كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي، وفي وحدتي، وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسا في تلك الوحدة الموحشة”.
يقول الشيخ القرضاوي في كتاب “الشيخ الغزالي كما عرفته”: “وقد أهَّل الشيخ للدعوة – بعد دراسته الأزهرية المتعمقة – حفظه لكتاب الله من الصبا، وشغفه بالقراءة من الصغر، حتى إنه ذكر عن طفولته أنها كانت عادية، وليس فيها شيء مثير، وإن كان يميزها حب القراءة، يقول: فقد كنت أقرأ في كل شيء، ولم يكن هناك علم معين يغلب عليَّ، بل كنت أقرأ وأنا أتحرك، وأقرأ وأنا أتناول الطعام”.
ثم يقول: “حفظ القرآن الكريم حفظا جيدا منذ صباه، فقلما تند منه آية أو كلمة، أو تلتبس عليه آية أخرى. وهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ويقرأ ما تيسر منه في صلواته، إماما ومنفردا، من حيث وقف ورده. ولم أره احتاج إلى المصحف الشريف للقراءة أو للمراجعة، إنما مصحفه صدره”([39]).
خاتمة:
بأسلوب أدبي رفعالج الشيخ محمد الغزالي في مشروعه الفكري مشكلات الحضارة بعمقٍ وانفتاحٍ نادر المثال؛ جمع فيه بين التأصيل والتفعيل، بين النص والواقع، بين مصير الأمة وهموم الفرد؛ ولقد وضع الزمنَ والوقت في محور أسباب حضارة الأمم، واعتبره شرطا لتحقيق التمكين والاستخلاف؛ غير أنه لم يسجن الزمن في بُعده الكمي الصلب بل تجاوزه إلى البعد الكيفي المرن؛ كما أنه لم يقصُره في مجال الغيب بل أنزله إلى عالم الشهادة؛ فاتسم فكره بالتوازن والواقعية، والنافعية، والدافعية… ذلك أنه ينطلق من الواقع ليعود إليه، بعد أن يعرضه على المعايير القرآنية التوحيدية؛ ثم يقيِّمه إيجابًا وسلبًا.
أعالج في ورقتي صورة الزمن عند الشيخ الغزالي من خلال ثلاثة محاور:
الأول– صورة الزمن وقيمته المعنوية والمادية في فكر الشيخ الغزالي.
الثاني– الزمن في معادلة الحضارة، أي الزمن باعتباره شرطا في تحقيق التمكين الموعود من الله تعالى، ضمن مقتضيات الفكر السَّنني.
الثالث– علاقة الشيخ وتجربته العملية مع الوقت، أي البرمجة الزمنية في فكر الشيخ الغزالي، وفي حياته.
والعديدُ من كتب الشيخ، ومقالاته، ومحاضراته السمعية، وخطبه… شرَّحت مسألة الزمن والوقت؛ سواءً بصفة مباشرةٍ، أو في علاقته بمفاهيم حضارية متقاطعة ومترابطة مثل: الحركة، والعمل، والعطل، والكسل، والإنتاج، والمحاسبة… الخ.
من هذا الموشور عرض الشيخ الغزالي الزمن، وشرَّح الوقت، ثم رسم العلاقة التي بين الإنسان والزمان؛ أي من موشور: “تكامل العلم والدين، وتلازم العلم والعمل”؛ ومن خلاله ولجنا إلى موضوعنا في هذا المؤتمر المبارك عن فكر الشيخ الغزالي، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء الصراط.
د. محمد موسى باباعمي
معهد المناهج، برج البحري، الجزائر العاصمة
شوال 1444ه/أفريل 2023م
[1]ـ الجزائر خير مثال وأنموذج على هذا الأثر؛ من خلال “حديث الاثنين”، و”ملتقيات الفكر الإسلامي”، و”الإشراف على جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية”، والدروس والمحاضرات، والاستشارات والفتاوى، وتصويب الفكر والفعل…
[2]ـ محمد الغزالي: من معالم الحق؛ ص62.
[3]ـ نفس المصدر؛ ص70.
[4]ـ Edward T. Hall : La Danse de la vie Temps culturel, temps vécu ; ed Essais ; 1992 ; p7
[5] – D`Ormesson Jean : Presque rien sur presque tout, ed. Gallimard, France, 1996,
[6]ـ محمد باباعمي: أصول البرمجة في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي؛ جمعية التراث، غرداية؛ 1425ه/2004م؛ ص18.
[7]ـ محمد الغزالي: خلق المسلم؛ دار الهناء، الجزائر؛ ص237.
[8]ـ انظر: عبد الوهاب المسيري: اللغة والمجاز، بين التوحيد ووحدة الوجود؛ دار الشروق، مصر؛ 1422ه/2002م.
Étienne Klein : Le temps existe-t-il? ; collection : Les Petites Pommes du Savoir ; 2002
[9]ـ محمد الغزالي: خلق المسلم؛ ص237.
[10]ـ أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين؛ ج1/ص316.
[11]ـ إليك ماكينزي: مصيدة الوقت، فنُّ إدارة الوقت؛ مكتبة جرير، الرياض؛ ط3: 2002م؛ 406ص.
[12]ـ انظر: نيازي عز الدين: النسيء، تقاويم العالم والتقويم العربي الإسلامي؛ الأهالي، دمشق؛ 1999م.
[13]ـ أورد الشيخ الغزالي رواية سعد بن جنادة من مسند الإمام أحمد؛ أما أنا فأوردت رواية سهل بن سعد، وهي كذلك مروية في مسند أحمد، وصححها الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم 2471.
[14]ـ منها: سر سارق الوقت التلفاز، سر سارق الوقت أي بال، سر سارق الوقت واتس واتس وآي بلاي، سر سارق الوقت اكس فوكس.
[15]ـ محمد باباعمي: لعله نشر في جنان الراشدين (ينظر).
[16]ـ انظر مثلا : محمد علي محمد : وقت الفراغ في المجتمع الحديث، مبحث في علم الاجتماع؛ دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر؛ 1981م؛ ص51. إحسان، محمد الحسن : الفراغ ومشكلات استثماره، دراسة مقارنة في علم اجتماع الفراغ؛ دار الطليعة، بيروت، ط1: 1986م. Joffre Dumazedier : Vers une civilisation du loisir ? Éditions du Seuil, Paris, 1962, 319 p
[17]ـ ص67-71.
[18]ـ محمد باباعمي: مفهوم الزمن في القرآن الكريم؛ دار الغرب الإسلامي، بيروت؛ 2000م؛ ص181-182.
[19]ـ محمد الغزالي: جدد حياتك؛ ص102-103.
[20]ـ محمد الغزالي: مستقبل الإسلام خارج أرضه، كيف نفكر فيه؛ دار الكتب، الجزائر؛ ص134-135.
[21]ـ محمد الغزالي: جدد حياتك؛ ص24.
[22]ـ خلق المسلم؛ ص132.
[23]) – مفهوم الزمن؛ نور للنشر، ألمانيا؛ 1438ه/2017م؛ ص177. وانظر: المولى صدرا الشيرازي: المبدأ والمعاد؛ تقديم جلال الدين الآشتياني؛ بوستان كتاب، ط5.
[24]) – إشارة إلى المستقبل الدنيوي للإنسان.
[25]) – إشارة إلى المستقبل الأخروي.
[26]) – بعد بحث في عدَّة مصادر من الحديث النبوي الشريف لم أجده بهذا اللفظ ولا بلفظ قريب منه، وقد عده محقِّق شرح النيل الشيخ عزّ الدين بليق حديثا، وذكر في الهامش أنـَّه رواه مسلم، غير أنـِّي لم أجده عند مسلم. اطفيش: شرح كتاب النيل؛ ج16/ص630-631
[27]ـ محمد الغزالي: الإسلام والطاقات المعطلة؛ نهضة مصر، مصر؛ 2005م؛ ص5.
[28]ـ نفسه؛ ص161.
[29]ـ الشيخ محمد الغزالي شاهد على العصر: حاوره عمر بطيشة؛ دار الفاروق، الرياض؛ 2010م؛ ص17.
[30]ـ نفسه؛ ص66، 74 وما بعدها.
[31]ـ محمد الغزالي: كيف نتعامل مع القرآن الكريم؛ مدارس عمر عبيد حسنة؛ نهضة مصر، مصر؛ ص206-208.
[32]ـ محمد باباعمي: علم البرمجة الزمنية: البرنامج اليومي من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية. نشر مؤسسة كتابك، الجزائر، 2017م؛ ص182 وما بعدها.
[33]ـ محمد الغزالي: فن الذكر والدعاء؛ ص17-23.
[34]ـ نفس المصدر؛ ص30-36.
[35]ـ نفسه.
[36]ـ محمد الغزالي: عقيدة المسلم؛ الشهاب للطباعة والنشر، الجزائر؛ 1992م؛ ص210-212.
[37]ـ محمد الغزالي: التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم؛ دار الشروق، مصر؛ ط8: 1426ه/2005م؛ ص5.
[38]ـ نفس المصدر؛ ص30.
[39]ـ القرضاوي: الشيخ الغزالي كما عرفته؛ نسخة رقمية،