أعمال ما بين العشائين

أعمال الرسول ﷺ بين العشائين

المقال مقتبس من كتاب أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي، الفصل السادس.

في بحث تفريعيٍّ، يستطيع الباحث أن يعتمد القواعد التي ضبطناها من خلال السنَّة النبوية الصحيحة، ليبنيَ برنامجا يوميا للرسول ﷺ، يراعي فيه جميع الحالات، وجميع الاحتمالات. ومثل هذا العمل العلميِّ، يحتاج إلى تتبُّع نصوص السنَّة نصًّا نصًّا، والاستفادة من أيِّ جزئية ممكنة، للاستدلال على أنَّ عملا ما كان في وقت ما من اليوم… وهذا ما يمكن أن نسمِّيه بالتأريخ اليومي للسيرة النبوية، أو فقه البرمجة اليومية.

وغنيٌّ عن البيان أنَّ البحث التأصيليَّ ليس من أهدافه استيفاء الفروع، بل تبيين المنهج والأصول العامَّة، ولذا سيقتصر على ما يتوصَّل إليه من أعمال في بحر اليوم كنماذج، ليترك الاستقراء العامَّ للنصوص الحديثية في أعمال أخرى. وأوَّل اليوم وقت المغربِ، وأوَّل أعماله صلاة المغرب.

الفترة الأولى: بين المغرب والعشاء

صلاة المغرب جماعة في وقتها:

روى العباس بن عبد المطلب، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تزال أمَّتي على الفطرة ما لم يؤخِّروا المغرب حتى تشتبك النجوم…»([1]). وقد تقدَّم أنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى: «الصلاة في وقتها»([2])، والعمل في وقته من قواعد البرمجة اليومية عند الرسول عليه السلام([3]). كما أنَّ وقت المغرب مضيَّق، يقول الإمام النووي: «وأمَّا المغرب فتعجيلها في أوَّل وقتها أفضل بالإجماع»([4]). وهذا العمل يعلِّم ضبط الوقت، واحترام المواعيد، ويُسهم في تقسيم اليوم إلى محطَّات زمنية ترفع الرتابة عن البرنامج اليوميِّ، وتعطيه الديناميكية والحركية.

كما أنَّ الصلاة في المسجد، لا في الدار، كفيلة بلمِّ شتات المسلمين، وتوحيد مواقفهم ووجهات نظرهم، ودفعهم للاهتمام بشؤون بعضهم، ومعرفة مشاكل إخوانهم ليسهموا في حلِّها.. وما إلى ذلك من فوائد جمَّة يجنيها المسلم من خلال حرصه على الصلاة في وقتها، و«إذا كانت الحياة تفرِّق الناس، فإنَّ المسجد يجمعهم، ويمزجهم، إنـَّها مدرسة يومية للتآلف والمساواة والوحدة ومشاعر الودِّ»([5])، وهي مدرسة زمنية لمن حافظ عليها وأقامها في وقتها.

النافلة بعد المغرب:

من عادة الرسول ﷺ أن يذهب إلى داره ويصلِّي النافلة بها، وهي على الأرجح ركعتان بعد المغرب، وقد داوم عليها، كما تشير مجمل الأحاديث، ففي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «حفظت من النبي ﷺ عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته…» ([6]).

وقد دلَّ الحديث على أنَّ بعض الصحابة أرادوا أن يتنفَّلوا في المسجد، فأمرهم الرسول ﷺ بالنافلة في منازلهم، ونصُّه: «صلَّى النبي ﷺ صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلمَّا صلَّى قام ناس يتنفَّلون، فقال النبي ﷺ: عليكم بهذه الصلاة في البيوت»([7]).

ومن الناحية الزمنية، تعتبر الصلاة في الدار نوعا من تدريب الأهل والأولاد، والحرص على تربيتهم، ومجاورتهم في هذا الوقت، وفيه وفاءٌ بحقِّهم بالإضافة إلى حقِّ الله تعالى، وبخاصَّة من كان له صِبيان ينتظرون منه أن يعطيهم قسطا من وقته، للمراقبة أو التعليم، والغالب أنـَّهم ينامون مبكِّرا، فلا يلحقهم بعد العشاء.

بل إنَّ عائشة رضي الله عنها سئلت في حديث عن تطوُّع الرسول ﷺ، فقالت: «كان يصلِّي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلِّي بالناس، ثم يدخل فيصلِّي ركعتين، وكان يصلِّي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلِّي ركعتين»([8]) والمتأمِّل في ألفاظ الحديث يستفيد صيغة الدوام من قولها: «كان يصلِّي..»، كما يلاحظ نوعا من الإشباع النفسي لدى عائشة رضي الله عنها، والافتخار والراحة بهذا الفعل من رسول الله عليه السلام، ويستنتج هذا من نسبة البيت إليها: «كان يصلِّي في بيتي». وقد تقدَّم أنَّ الصلاة نوع من الترويح([9])؛ لأنـَّها تحقِّق الخصائص الأساسية للترويح، وهي: التحرُّر من الالتزامات، والإشباع النفسيُّ، والإسهام في تحقيق التكامل الشخصيِّ…

كما أنَّ عمل المرأة في هذا الوقت يمكن تحديده من خلال الحديث، فهي إمَّا في صلاتها مع زوجها، أو في شغل آخر، ولكنَّها في بيتها كما في حديث عائشة. ولكن «للأسف، أغلب الأزواج يغدُون إلى بيوتهم متعبين، ولا يبحثون إلاَّ عن الهدوء والسكون، ويفوتهم أنَّ بداخلها من ينتظر بشوق، بعض الاهتمام والعناية»([10]). وبعض الأزواج، من جهة أخرى، يأوون إلى بيوتهم فيجدونها قفرا خلاء، ليس بها زوجة ولا أولاد؛ لأنَّ الزوجة في وظيفها، والبنين – بالتبع – إمَّا عند الحاضنة، أو شغِلوا عن الدار لغاية دخول الوالدين في آخر اليوم.

المكث في المسجد وانتظار الصلاة:

قال عليه السلام: «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط»([11]). وفي البقاء في المسجد بين صلاة وصلاة نوع من الراحة النفسية، وإعطاء الفرصة للقلب أن يتذكَّر ويتفكَّر، وإيجاد وقت لتلاوة القرآن الكريم، وبخاصَّة لمن كان يومه عامرا بالمشاغل والأتعاب النفسية والجسدية. ولم يأت الأمر من الرسول عليه السلام بوجوب هذا الرباط، وإنما هو زيادة أجر.

وما دامت صلاة النافلة في الدار غير واجبة، فإنـَّها وإن داوم عليها صاحبها، لا ينفي أن يصلِّيها في المسجد أحيانا، ولا التزام في هذا، بل تؤدَّى حسب الإحساس بالارتياح والحاجة النفسية والاجتماعية…

الذكر والدعاء:

قال الرسول عليه السلام: «إذا صلَّيت المغرب فقل قبل أن تكلِّم أحدا: اللهمَّ أجرني من النار سبع مرَّات، فإنـَّك إن متَّ من ليلتك تلك كتب الله لك جوازا من النار»([12])؛ وثمة أذكار أخرى يمكن أن يقولها الإنسان، دلَّ على فضلها القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة، مثل التسبيح، والاستغفار، والباقيات الصالحات…

والذكر يدخل في نوع الأزمنة الصبغة، التي تُبقي المسلم موصولا بربِّه في جميع الأوقات، غير غافل عنه في ليل ولا نهار، وهو من الأعمال المستغرقة لبحر اليوم، وغير المؤقَّتة. إلاَّ أنَّ بعض المحاولات – مثل محاولة العامليِّ([13])جعلت منه أصلا، ورتَّبت أذكارا طويلة تشغل حيزا من الوقت غير قليل، وكأنـَّها صارت جزءا غير يسير من يوم المسلم، في غياب أعمال أخرى أكثر أهمية من وجهة نظر الإسلام، وفي هذا إخلال بسلَّم الأولويات.

مجالس العلم:

في حديث رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلَّم خيرا، أو ليعلِّمه، كان كالمجاهد في سبيل الله, ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له»([14]). وقال الشوكاني: «في الحديث الإرشاد إلى أنَّ تعلُّم العلم وتعليمه في المسجد أفضل من سائر الأمكنة»([15]).

وقد نبَّه كلٌّ من ابن العربي، والشنتوت، والخالديِّ في مقترحاتهم إلى أنَّ المسلم «يصلِّي المغرب، ويمكث في المسجد، لتلاوة القرآن، أو تذاكر العلم إلى العِشاء»([16]).

ومهما فُتحت من معاهد وجامعات، فإنَّ حلقات الذكر والعلم في المساجد ينبغي أن لا تنقطع؛ لأنَّها تعمل على تعميم العلم، وعلى تفقيه الناس، وتعليمهم أمور دينهم، ولو لم يكونوا من الطلبة والعلماء.

إطعام الطعام والاشتغال بأمر الأمة:

وظيفة الرسول ﷺ هي فوق العبادة المجرَّدة، فقد كان نِعم المسؤول والأب الرحيم على أمَّته، وعلى صحابته، ولذا فإنـَّه لم يقصُر نفسه فيما بين المغرب والعشاء على نوع واحد من الأعمال، كما نطالع في بعض المراجع، وكما يتوهَّم من لم يتتبَّع سنَّته الصحيحة بدقَّة، فنجده عليه السلام قد جمع بين أنواع البرِّ في إيقاع عجيب، وطبَّق قاعدة “فإذا فرغت فانصب” بإحكام([17])؛ ومما فعله في هذا الوقت فيما رواه ابن قيس بن طغفة الغفاري عن أبيه قال: «أتانا رسول الله ﷺ ونحن في الصفَّة بعد المغرب، فقال: يا فلان، انطلق مع فلان. ويا فلان، انطلق مع فلان. حتى بعث خمسة أنا خامسهم. فقال: قوموا معي، ففعلنا، فدخلنا على عائشة وذلك قبل أن ينـزل الحجاب، فقال: يا عائشة أطعمينا، فقربت جشيشة([18])، ثم قال: يا عائشة أطعمينا، فقربت حيسا([19]). ثم قال: يا عائشة، أسقينا، فجاءت بعس([20]) فشرب…» ([21]).

ومن هنا نفهم أنـَّه عليه السلام لم يكن يرى أنَّ الصلاة أو الذكر أو أيَّ نوع آخر من الأعمال أفضل في أيِّ وقت من الأوقات، ما لم يكن فرضا، بل الأفضل هو ما يعمُّ نفعه، ويتعدَّى([22]). فإذا ما تعارض في هذا الوقت الاعتكافُ في المسجد مع نفع العباد، أو أداء حقٍّ من حقوق الناس، أو الأرحام، كان هذا الحقُّ أولى، وهذا من تمام تطبيق فقه الأولويات على البرنامج اليوميِّ، وفي الحديث المرويِّ عن ابن عمر أنَّ رجلا جاء إلى النبي ﷺ: فقال: «يا رسول الله، أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ فقال رسول الله ﷺ: أحبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله تعالى سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة، شهرا … ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام»([23]). ويختصر الشاطبي هذا المعنى بقوله: «إنَّ كلَّ مطلوب هو من جملة ما يتعبَّد به إلى الله تعالى، ويتقرَّب به إليه. فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك، والعادات كلُّها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات…»([24]).

وفي “مصفوفة إدارة الوقت” التي ناقشناها في الفصل الرابع([25])، ذكرنا أنَّ الكتَّاب يقسِّمون وقت العامل حسب الطوارئ والأولويات إلى أربع خانات، وهي:

هامٌّ، وعاجلهامٌّ، غير عاجل
غير هامٍّ، وعاجلغير هامٍّ، وغير عاجل

تنبِّه المراجع الغربية إلى ضرورة الاهتمام بالمربَّع الثاني: (هامٌّ، وغير عاجل)؛ لأنـَّه يمثِّل مربَّع الكفاءة، والقيادة الذاتية، وهو الذي يحدِّد الفرق بين الناجح وغير الناجح، ويأخذ عادة أقلَّ وقت ممكن، وهو مع ذلك يوفِّر أهمَّ الأعمال الممكنة والنتائج المرجوَّة، ومنها: تقوية النفس، ومنع حدوث مشكلات متوقَّعة، واستجلاء قيم هامَّة في حياتنا، وتخطيط المستقبل، وبناء علاقات صحية، وترقية الذات وتنميتها…

فواضح أنَّ ما بين المغرب والعِشاء سواء أكان للصلاة في الدار أم في المسجد، أو كان لحضور مجالس العلم، أو لإطعام الطعام، أو لغيرها من أعمال البرِّ، فإنـَّه يعطي قوَّة الدفع للمربَّع الثاني، ويُسهم في تطوير الكفاءة، من منظور إسلاميٍّ أصيل. بينما هذا الوقت يكاد يكون غائبا في البرنامج الغربيِّ، أو هو للرياضة وتحقيق الإشباع النفسي فقط، وكثيرا ما كان مساحة لمواصلة العمل اليوميِّ([26]). ابتغاء المكافأة والشهرة.

العَشاء:

في الحديث أنَّ النبي ﷺ في المزدلفة: «أمر رجلا فأذَّن وأقام، ثم صلَّى المغرب، وصلَّى بعدها ركعتين، ثم دعا بعَشائه فتعشَّى»([27]).

وروى أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنـَّه قال: «إذا حضر العِشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشاء»([28]). وفي رواية يقدَّم العَشاء حتى على صلاة المغرب، قال عليه السلام: «إذا قدم العَشاء فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب، ولا تعجِّلوا عن عشائكم»([29]). وفي السفر كذلك كان عليه السلام يقدِّم العَشاء على العِشاء: فقد «كان عليٌّ رضي الله عنه إذا سافر سار بعدما تغرب الشمس حتى تكاد أن تظلم، ثم ينـزل فيصلِّي المغرب، ثم يدعو بعَشائه فيتعشَّى، ثم يصلِّي العِشاء، ثم يرتحل ويقول: هكذا كان رسول الله ﷺ يصنع»([30]).

ففي العَشاء تحقيق لحقِّ النفس، وترويح عن الذات، وإعداد لمراحل من العمل، وانتقال من عمل إلى عمل آخر… وغير ذلك ممَّا هو أصل في البرنامج اليوميِّ من منظور إسلاميٍّ.

ويذكر صاحب “العقد الفريد” أنَّ أجود أوقات الطعام «الأوقات الباردة، لجمعها الحرارة في باطن البدن، وأمَّا الأوقات الحارَّة فينبغي أن يجتنب أخذ الطعام فيها (…) فلذلك كانت القدماء تفضِّل العَشاء على الغداء»([31]). ويستدرك أنَّ «للعادة في هذا حظٌّ عظيم»([32]). ولعلَّ هذا ما يفسِّر كون وجبة العَشاء أكثر حضورا من وجبة الغَداء في العهد النبويِّ([33]).

ولم نطَّلع في جملة المصادر الحديثية على أمر قاطع بالاعتناء بوجبة من الوجبات اليومية، سواء في وقتها، أو نوعها، أو بالمداومة عليها… إلاَّ حديثا واحدا رواه الترمذي في «باب ما جاء في فضل العَشاء»([34])،  ونصَّه: «تعشَّوا ولو بكفٍّ من حشف، فإنَّ ترك العَشاء مهرمة»([35]). غير أنَّ الحديث ضعيف، قال فيه أبو عيسى: «هذا حديث منكر لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، وعنبسة يضعف في الحديث، وعبد الملك بن علاق مجهول»([36]). وقريب منه حديث «لا تدعوا العَشاء ولو بكفٍّ من تمر، فإنَّ تركه يهرم»([37]).

كان عليه السلام يكره النوم بين المغرب والعِشاء:

في برمجة يومية متكاملة، يبيَّن ما ينبغي أن يُفعل، وما لا ينبغي أن يُفعل، ولم تقتصر سنَّة المصطفى على الواجبات وعلى النوافل والمندوبات فيما بين المغرب والعشاء، بل إنَّ الرسول ﷺ كان «يكره النوم قبل العِشاء، والحديث بعدها»([38]). والنوم بين المغرب والعشاء مفسدة لليل، ومدعاة للأرق والسهر، وهو من الكسل المذموم.


صلاة المغرب جماعة
النوافل، الذكر المكث في المسجد وانتظار الصلاةمجالس العلمإطعام الطعام والاشتغال بأمر الأمةالعَشاء
يكره النوم في هذا الوقت

أعمال ما بين المغرب والعشاء في السنة النبوية

يلاحَظ من خلال البرنامج اليومي للرسول عليه السلام أنَّ الثابت الوحيد هو صلاة المغرب جماعة، والنوافل منها ما داوم عليه الرسول ﷺ كركعتين بعد المغرب في داره، ومنها ما لم يداوم عليه.

والفترة ما بين المغرب والعشاء فترة حرَّة، يمكن للمسلم أن يأخذ فيها حقَّ نفسه، من العَشاء. أو يشتغل فيها بأمور وظيفته، أو بالعلم، أو يطعم الطعام… وكلُّها أعمال برٍّ.

وجلُّ القواعد المتقدِّمة تلاحظ في برمجة هذا الوقت، منها: المداومة ولو مع القلَّة([39]) تلاحظ في الركعتين بعد المغرب؛ والانتقال من عمل إلى آخر([40])، والموازنة بين الحقوق([41]): حقِّ الله بالصلاة والذكر، وحقِّ النفس بالعَشاء، وحقِّ الأهل…

والمرونة هي السمة التي تميِّز أعمال الرسول ﷺ في الفترة الحرَّة، كما أنـَّه توجَد حالات خاصَّة يؤخِّر فيها الرسول ﷺ صلاة المغرب مثل الحرب والسفر.

ولنا أن ننظر إلى الرسول ﷺ في هذه المرحلة، من خلال الأحاديث الصحيحة: كعابد، وكربٍّ لأسرة، وكوال، وكقائد للجيوش، وكمسافر يشقُّ الآفاق، وككريم يُطعم الطعام، وكعالم يعلِّم الصحابة ويوجِّههم… وهذه الوظائف المتعدِّدة في حياة الرسول ﷺ كانت غائبة في بعض البرامج المقترحة السابقة([42])، وأحيانا أُخترلت في وظيفة دون وظيفة.

ومن تمام السنَّة أن يجتهد المرء في تطبيق مثل هذه الحركية في حياته، ولا يكون نظره مجزَّأً وموجَّها لمجال واحد، ووظيفة واحدة، بل عليه أن يوفِّي جميع الحقوق، ما استطاع، كما كان رسول الله ﷺ يفعل. وفي عصرنا يمكن أن يضيف بعضَ النشاطات الحركية، والثقافية، والجمعوية، أو يشارك في العمل السياسي مثلا، أو يمارس بعض الرياضات المشروعة، أو يكون إيجابيا في التعامل مع الإعلام… الخ.


[1] –  رواه ابن خزيمة في صحيحه؛ وصحَّحه؛ ج1/ص175، رقم 340. بسند: ««أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أبو زرعة نا إبراهيم بن موسى نا عباد بن العوام عن عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي  ﷺ قال: «لا يزال…»

[2] –  تقدَّم تخريجه، انظر أعلاه- ص215.

[3] –  تقدَّم تخريجه، انظر أعلاه- ص215.

[4] –  النووي، أبو زكريا يحي بن شرف (ت. 676هـ/1277م): المجموع شرح المهذَّب؛ (الأصلية: المطبعة المنيرية) طبعة جامع الفقه، شركة حرف، الإمارات العربية المتحدة؛ 1999م؛ ج3/ص54.

[5] –  بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب؛ ص295.

[6] –  رواه البخاري؛ كتاب الجمعة، باب الركعتين قبل الظهر؛ ج1/ص395، رقم1126؛ بسند: ««حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال حفظت…».

               ولحديث: «أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا محمد بن يحيى الزماني قال حدثنا سلم بن قتيبة قال حدثنا بن أبي ذئب عن نافع عن بن عمر قال: كان النبي ﷺ لا يصلي الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد الجمعة إلا في بيته» رواه ابن حبان، ج6/ص235، رقم 2487. وصححه.

[7] –  رواه ابن خزيمة، في صحيحه، وصححه؛ ج2/ص210، رقم 1201؛ بسند: «حدثنا بندار نا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا محمد بن موسى الفطري عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال:…». وقال ابن خزيمة: «الأمر بذلك أمر استحباب لا أمر إيجاب، إذ صلاة النوافل في البيوت أفضل من النوافل في المساجد».

[8] –  رواه مسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز النافلة قائما وقاعدا؛ ج1/ص504، رقم730؛ وسنده: «حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن خالد عن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة عن صلاة رسول الله ﷺ عن تطوعه فقالت:…».

[9] –  انظر أعلاه- ص242 وما بعدها

[10] – Camusat: L`éducation Permanente, p56

[11] – رواه الربيع؛ باب في فضائل الوضوء؛ ج1/ص55، رقم 98. ورواه ابن خزيمة وصحَّحه، ج1/ص5، رقم 6. ورواه مسلم؛ كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره؛ ج1/ص219، رقم 251؛ بسند: ««حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعا عن إسماعيل بن جعفر قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل أخبرني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:…».

[12] – رواه ابن حبان، وصححه؛ ج5/ص366، رقم 2022؛ بسند: «أخبرنا أبو يعلى قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان الكناني عن مسلم بن الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه قال بعثنا رسول الله…».

[13] – انظر أعلاه- ص301 وما بعدها.

[14] – قال الشوكاني: الحديث إسناده هكذا: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة فذكره, وحاتم بن إسماعيل قد وثقه ابن سعد وهو صدوق كان يهم, وبقية الإسناد ثقات» الشوكاني: نيل الأوطار؛ ج2/ص182 وما بعدها.

[15]نفسه.

[16] – انظر- أعلاه- ص308.

[17] – انظر القاعدة أعلاه- ص322.

[18] – في لسان العرب: «الـجَشِيشة: ما جُش من الـحب (…) الـجَشِيشُ: الـحبّ حين يُدقّ قبل أَن يُطْبخ، فإِذا طُبِخ فهو جَشِيشَة (…) قال شمر: الـجَشِيشُ أَن تُطْحَن الـحِنْطةُ طَحْناً جَلِـيلاً، ثم تُنْصَب به القِدْر، ويُلْقـى علـيها لَـحْم أَو تَمْر فـيُطْبخ، فهذا الـجشيش، ويقال لها دَشِيشة» ج6/ص273.

[19] – في لسان العرب: «الـحَيْس: الـخـلط، ومنه سمي الـحَيْسُ. و الـحَيسُ: الأَقِطُ يخـلط بالتمر والسمن، وحاسَه يَحِيسُه حَيساً؛ قال الراجز: التَّمْرُ والسَّمْنُ مَعاً ثم الأَقِطْ الـحَيْسُ، إِلا أَنـَّه لـم يَخْتَلِطْ. وفـي الـحديث: أَنه أَوْلَـم علـى بعض نسائه بَحَيْسٍ؛ قال: هو الطعام الـمتـخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأَقط الدقـيق والفَتِـيتُ». ج6/ص61

[20] – في لسان العرب: «العُسُّ: القدح الضخم، وقـيل: هو أَكبر من الغُمَرِ، وهو إِلـى الطول، يروي الثلاثة والأَربعة والعِدَّة، والرِّفْد أَكبر منه، والـجمع عِساس و عِسَسَة» ج6/ص140.

[21] -رواه ابن حبان وصححه؛ ج12/ص358، رقم 5550؛ بسند: ««أخبرنا بن سلم قال حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال حدثنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبى كثير عن بن قيس بن طغفة الغفاري عن أبيه قال…»  ورواه الحاكم في المستدرك، ج4/ص301، رقم 7708؛ وقال: «مختلف في إسناده».

[22] – هذه إحدى القواعد الأساسية في فقه الألويات، وانظر- القرضاوي: في فقه الأولويات؛ ص107 وما بعدها.

[23] – رواه الطبراني في الكبير، بسند حسن: «حدثنا محمد بن عبد الرحيم الشافعي الحمصي ثنا القاسم بن هاشم السمسار ثنا عبد الرحمن بن قيس الضبي ثنا سكين بن سراج ثنا عمرو بن دينار عن بن عمر أنَّ رجلا…». الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب (ت. 360هـ/971م): معجم الطبراني الكبير؛ مر. حمدي بن عبدالمجيد السلفي؛ مكتبة العلوم والحكم، الموصل؛ 1404هـ/1983م.

[24] – الشاطبي: الاعتصام؛ ج1/ص248.

[25] – انظر ص186، أعلاه.

[26] – وفقا لبحث أجرته «لينك ريسورسنر» وهي مؤسَّسة بحوث متخصص في ميزانية الوقت، فإنَّ «23 بالمائة من إجمالي القوى العاملة بالولايات المتحدة كانت تمارس أعمالها في المنـزل، في عام 1989، وهذا يشمل ستة وعشرين مليونا من البشر، وهم أصحاب عمل، أو موظفين مقابل أجر يعملون في منازلهم، أو يعملون عملا حرًّا خارج شركتهم، أو أعمالا بعقود، أو ممن يعملون أعمالا حرَّة. وقد ازداد عدد العاملين في المنازل بحوالي سبعة بالمائة سنويا خلال الجزء الأخير من ذلك العقد، وتعود أساب الزيادة إلى الازدهار الاقتصادي في الثمانينيات، وإلى التوسع الكبير في استخدام الأجهزة الإلكترونية، مثل أجهزة الكمبيوتر، والفاكسميلي، الذي جعل العمل في المنزل خيارا عمليا. فالسؤال الذي لم تتم الإجابة عليه بعد هو: هل الدمج ما بين العمل المكتبي والعمل في المنـزل يزيد ضغوط الوقت أم يقلِّصها؟» مذكرة Home sweet home/Office، تقرير تطوير الإدارة، خريف عام 1989، ص5. نقلا عن ليستر: إدار الوقت؛ ص28. والسؤال الذي يحير الباحث هو: أين يقضي المسلم المعاصر وقته، في غياب البرمجة الإسلامية والغربية ، من حياته اليومية؟

[27] – رواه البخاري؛ كتاب الحج، باب من أقام لكلِّ واحدة منهما؛ ج2/ص602، رقم 1591؛ بسند: «حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول حج عبد الله رضي الله تعالى…».

[28] – رواه الربيع؛ باب في السهو في الصلاة؛ ج1/ص106، رقم 249. ورواه مسلم؛ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام؛ واللفظ له، ج1/ص392، رقم 557؛ بسند: «أخبرني عمرو الناقد وزهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة قالوا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ…».

[29] – رواه البخاري؛ كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة؛ ج1/ص238، رقم 642؛ بسند: «حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: …»

[30] – رواه أبو داود في سننه؛ كتاب الصلاة، باب متى يتم المسافر؛ ورواته وثقهم الذهبي وابن حبان وغيرهما؛ وقال الألباني: «حديث صحيح»، بسند: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن المثنى وهذا لفظ بن المثنى قالا ثنا أبو أسامة قال بن المثنى قال أخبرني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده أن عليا…». أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (ت. 275هـ/888م): سنن أبي داود؛ مر. محمد محيي الدين عبد الحميد؛ دار الفكر، بيروت؛ ج2/ص10، رقم 1234.

[31] – ابن عبد ربه، أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت. 327هـ/940م): كتاب العقد الفريد؛ تح. أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الأبياري؛ دار الكتاب العربي، بيروت؛ ط3: 1384هـ/1965م؛ ج6/ص313.

[32]نفسه.

[33] – تتبعت العشرات من الأحاديث في برامج الكمبيوتر، ولم أعثر على حديث فيه صيغة الدوام على الغداء عن الرسول ﷺ. ولعلَّ المسألة تبقى لمزيد من التحقيق.

[34] – الترمذي: الجامع الصحيح؛ ج4/ص287.

[35]رواه الترمذي؛ كتاب الأطعمة، باب ما جاء في فضل العشاء؛ ج4/ص287، رقم 1856؛ بسند: «حدثنا يحيى بن موسى حدثنا محمد بن يعلى الكوفي حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي عن عبد الملك بن علاق عن أنس بن مالك قال قال النبي ﷺ …».

[36]نفسه.

[37] – رواه ابن ماجه؛ كتاب الأطعمة، باب ترك العشاء؛ ج2/ص1113، رقم 3355؛ بسند: «حدثنا محمد بن عبد الله الرقي ثنا إبراهيم بن عبد السلام بن عبد الله بن باباه المخزومي ثنا عبد الله بن ميمون عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ…». إلاَّ أنَّ الألباني قال فيه: «ضعيف جدًّا».

[38] – رواه البخاري؛ كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يكره من النوم قبل العشاء؛ ج1/ص208، رقم 543؛ بسند: «حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا عبد الوهاب الثقفي قال حدثنا خالد الحذاء عن أبي المنهال عن أبي برزة أن رسول الله ﷺ كان…»

[39] – انظر أعلاه- ص314.

[40] – انظر قاعدة “فإذا فرغت فانصب”، أعلاه- ص323.

[41] – انظر أعلاه- ص324.

[42] – انظر أعلاه- ص294 وما بعدها.

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

Daily Programming Rules from the Holy Sunnah

Daily Programming is not just a number of deeds to accomplish during the day; night …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *