فؤاد سزكين.. وصرامته في البرمجة الزمنية

(من كتاب الكنز المفقود)
ينبغي لنا إحياء مفهوم الوقت وقيمته في العالم الإسلامي اليوم؛ فممَّا يُحزَنُ له أنَّ مفهوم استغلال الوقت والانتفاع به ضعيف جدًّا اليوم، كما أن أخلاق الالتزام بالمواعيد تلاشت من طباع الناس حاليا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الأوروبيون فهم يعتنون بهذا المفهوم أكثر منّا، وعليّ أن أعترف أن هذا المفهوم لم يكن لدي في شبابي، لكنني رأيتُ بعدما عشتُ في ألمانيا أن الوعي بقيمة الوقت مِنْ أَهَمّ المقوّمات التي ترتكز عليها الحضارة الغربية.
يُضَيعُ كثيرٌ من المسلمين حياتهم اليوم في التنزه والتجول؛ في حين يجب عليهم التفكير وتطوير أفكارهم، وينبغي لهم كذلك تعلم نكران الذاتِ قليلا، وإلا فلن يستطيعوا إنجاز هذه الأعمال الضخمة، أشعر أحيانًا بالتعب وأنا أجلس في مكتبتي أُؤَلِّفُ هذه الكتب، وأرغب بين الفينة والأخرى في أخذ قسط من الراحة، ثم أتذكَّرُ على الفور أن الوقتَ يمرُّ ! ذلك الوقت الذي لا يمكنكم الحصول عليه مجددًا، أو حتى شراؤه بالمال ! وأشعر بالغضب إزاء نفسي وأقول مُحَدِثًا إيَّاها: “كيف تسمحين باقتطاع كلّ هذا القدر من الوقت؟”.
ينسى الناس أن حياتهم قصيرة للغاية، ولا يعُونَ ضرورة استغلال أوقاتهم بأفضل طريقة، ذلك أن الوقتَ عطية الله لهم منحهم إيَّاها بلُطْفِهِ وفضلِهِ، وقد كنتُ أتردَّدُ على تركيا كثيرًا في الأشهر الأخيرة بسبب أعمال تأسيس المتحف؛ ولأنني كنت أزورُها عادةً في العطلات الأسبوعية، كنتُ كلّما اتصلتُ بأَحَدِ الأصدقاء أو الأحباب أتلقَّى منه ردًّا من قبيل: “لا تأتِ في عطلة هذا الأسبوع، فعندي مناسبة زواج !” حسنًا فليتزوجوا، لكن عليهم عدم الإسراف في الجهد والمال، والأهم من ذلك عدم الإسراف في الوقت! فيا لها من خسارة كبيرة ! إن كثرةَ وتعدُّدَ حفلات اليوم تقضي على حياة الناس، ولا حرج في أن يكون هناك احتفال بمناسبات الزواج، غير أن هناك العديد من حفلات المناسبات الأخرى مثل الختان وما إلى ذلك.
وللأسف الشديد فالأكاديميون أيضًا لا يُستثنون من هذه المناسبات ! فعندما زرتُ تركيا ذات مرة لم أستطع مقابلة أحد أصدقائي الذين أحبهم؛ والسبب أنه كان لديه حفل من حفلات تلك المناسبات الأسرية.
وهناك صديق آخر كان يتابع لقاءاتي المتلفزة، فأخبرني ذات مرة أنه لن يستطيع متابعة حواري على التلفاز لأنه سيذهب إلى حفل زفاف ! هذا في حين أنه من الأصدقاء الذين يقدِرُونَني كثيرًا، فما بالكم ببقية المعارف والأصدقاء الآخرين؟! كل هذا يحدث بينما لا أسمع هذا الكلام من شخص ألماني.
إنني لا أستطيع أن أسلب الناس أوقاتهم الثمينة بحجة أنني أتزوَّجُ ! فنحن ننسى دائمًا أن الوقتَ من أكبر نِعَمِ الله علينا، ولهذا نضيعُهُ في أشياء تافهة.
ليست لدي إجازة، فأيام العام الثلاثمائة وخمسة وستين كلها عمل بالنسبة لي، ولا وقت لدي لأضيّعَهُ هباءً؛ ولقد ألزمتُ نفسي أن أكون في المعهد يوميًّا في تمام الساعة السابعة والنصف صباحًا، بما في ذلك أيام السبت والأحد، وينبغي للأشخاص الذين يرغبون في أن يكونوا علماء أن يضعوا لأنفسهم برنامجًا زمنيًّا مشابها لهذا البرنامج من أجل العمل؛ فلن نستطيع النهوض ببلادنا ما لم نفعل ذلك، ومن ثمَّ فعلينا التحكم في أوقاتنا.

عن فؤاد سزكين

شاهد أيضاً

صورة الزمن عند الشيخ محمد الغزالي

(البناء الحضاري: من الزمن الكمّي إلى الزمن الكيفي) فكر الشيخ محمد الغزالي عصيٌّ عن التصنيف، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *