دعوى تأسيس: علم الزمن والوقت
اقتحمتُ عالـَم “جورج سارطون” من خلال “فؤاد سوزكين”، وأنا في هذه المرحلة أحضّر لإطلاق دعوى التأسيس “لعلم الزمن والوقت”، ولقد طالعتُ الأجزاء الخاصَّة بالفلك والرياضيات والطب من “تاريخ التراث العربي”، ونحتتُ منها المادَّة الخبرية لانشغالي المعرفي، فوجدت سوزكين كثيرا ما يحيل إلى سارطون، ويشيد به في مواطن؛ وتزامن ذلك مع إعادة مطالعتي لكتاب يترجم لسوزكين من إعداد عرفان يلماز، وفيه فقرات كلها إطراء وتقدير لسارطون، بخاصَّة حين أنصف الإنسانية، والتراث الشرقي بخاصَّة؛ ولم يسجن عقله في “المحورية اليونانية قديما، والغربية حديثا”.
ثم اقتنيت كتاب “تاريخ العلوم والإنسية الجديدة” لسارطون، ترجمة “إسماعيل مظهر”؛ فجلستُ إليه بنهمٍ شديد، وعيَّنت بالقلم الكاشف ما به الحاجة لمجال اهتمامي الجديد القديم، ولمحل دعواي العلمية المباشرة؛ فلم أقتصر على موضوع “الزمن والوقت”، بل تجاوزته إلى أعمق من ذلك، إلى معضلة “الإقصاء المنهجي للشرق كله من التراث الإنساني”، و”الاستعمار الظالم لكلِّ ما هو شرقيٌّ، وأوَّل وأهمُّ ما تم الانقضاض عليه: العلمُ الشرقي، والعقلُ الشرقي، وروح الإبداع لدى الشرق”.
غير أني وجدتُ سارطون – كما وصفه سوزكين بحق – صاحب عقل حُرٍّ، تمكَّن بجهوده الفكرية أن يفكَّ عنه قيود الغرب، وهو غربي؛ وأن يتسنَّم ذرى العالَم من بابل إلى مصر، ومن الهند إلى روما، ومن فارس إلى أمريكا؛ وهو يعترف بصعوبة المهمَّة؛ بل ويقرُّ أنَّ مقولة: “الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقي الطرفان” مقولةٌ خاطئة؛ ويحدد مهمَّته العلمية، وخطَّه المنهجي في أن يقضي على هذا الوهم، ويقول:
“إذن، وجب عليَّ… أن أقضي على هذه الخطيئة وسعَ ما أستطيع” (ص137).
ونعجب من جرأة سارطون في نقد المشتغلين بالعلم، وبتاريخ العلم، نقدا لاذعا؛ وهو يقول: “من الحقائق المؤسية أنَّ كثيرا من رجال العلم لا يستندون إلى ميراث من ثقافة الماضي، فتراهم ينفرون من النظر إلى الوراء، وإنَّ هذه لدائرة حرجة. ولماذا هم ينظرون تلك النظرة، إذا لم يكن لهم فيها من شيء ينظرونه؟ ومعرفتهم بتاريخ العلم لا ترتد لأبعد من القرن السابع عشر؟. وبعد: نقول إنهم من هذا مفرطون في الخطأ” (ص128).
وأنا أطالع للمئات من العلماء عبر التاريخ، ممن ساهم في بناء صرح علوم الفلك والهيئة، وكل ما له علاقة بالزمن والوقت: فلسفة وحكمة، قياسا وتقويما، تنظيما وتخطيطا… وأنا اطالع لهؤلاء تيقنت أنَّ ثمة “يدٌ خفية” عمدت إلى محو أسمائهم ابتداء، ثم انتحال ثمراتهم انتهاء؛ وكنتُ أتوجَّس خيفة من إطلاق هذا الحكم “الصحيح والجريء” في آن واحد؛ إلى أن قرأت هذه العبارة المؤسَّسة على أخلاق عالية، وعلم واسع: “إنه جلي واضح إذا وعينا الحقيقة الأساسية: حقيقة أنَّ اليونان انتحلوا كمية كبيرة من المعلومات والنظريات الأولية من المصريين وأمم ما بين النهرين”(ص143).
وبنفس الجرأة وعلو الهمة، يقرر سوزكين: “أنَّ الكثير مما أنتجه العلماء المسلمون تم انتحاله من قبل علماء القرون السادس عشر والسابع عشر ميلادي، وأنه تمكَّن من اكتشاف مخطوطات منتحلة، ونصوص تم إسقاط الاسم ونسبتها إلى غير أهلها…”(النص من سوزكين)
إذن، قلت: كنت أتوجَّس خيفة من إطلاق الحكم، حتى تبين لي أنَّ العلماء المسلمين تمكنوا من عرض أدق المسائل العلمية المتعلقة بالفلك والهيئة والزمن، وصنعوا أعقد الآلات للقياس والرصد؛ وأنهم استفادوا ممن سبقهم من الهند واليونان والسرياليين؛ ولكنهم أضافوا إضافات كبرى؛ ولا أدلَّ على ذلك من تأسيسهم لعلوم مثل: علم الكواكب الثابتة، وعلم المثلثات، ورسمهم لخرائط النجوم، واقتراحهم لخطوط الطول… الخ.
ثم هم بعد ذلك سجنوا على هامش تاريخ العلم، بل واغتيلوا كلية في كثير من الأحيان.
في هذا السياق الذي تعمَّدت وضع القارئ فيه، وإشراكه في “الورشة” التي فتحتها، ولم تغلق بعد؛ أدافع عن أنني اليومَ أمتلك السبب والوسيلة لدعوى علم جديد، وهو “علم الزمن والوقت”؛ وذلك لثلاثة أسباب، هي:
- المصدر المهيمن: القرآن الكريم.
- الوسيلة المنهجية: العالم الرقمي.
- أزمة العلم: العالـَم ما بعد الوباء.
أولا– المصدر المهيمن: القرآن الكريم.
المعروف في تاريخ العلم هو كثرة العلوم التي تعنى بالزمن والوقت، أي أنَّ الفكر البشري أبدع “علوم الزمن والوقت” مجزَّأة؛ ولم يجرأ على تجميع قطع الغيار في محرك واحد؛ وقد كان محقا في ذلك؛ إذ لم يكن يمتلك المصدر، ولا الوسيلة المنهجية؛ لهذه المعركة غير المحمودة العواقب.
أمَّا عدم امتلاك المصدر والوسيلة المنهجية في آن واحد؛ فيعود إلى مقولة : “الشرق شرق، والغرب غرب” وهما مثل خطين متوازيين لا يتلتقيان أبدا؛ وبذلك استأثر الشرق بالحكمة، والوحي، والمعنى؛ واستقلَّ الغرب بالعقلانية، والتطور العلمي، والهيمنة؛ وبدا كأنَّ حظ الغرب هو الحضارة، وحظ الشرق هو الثقافة؛ ولم يوجد من يجمع بين الثقافة والحضارة على صعيد واحد.
الشرق هو مهبط الوحي، وهو صاحب المصدر الغيبي؛ وهو موطن الحكمة من آدم عليه السلام، إلى موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكونفشيوس وطاغور وحتى غاندي في الآخرين.
أمَّا الغرب، فهو الذي يمتلك زمام العلم – على الأقل حسب ما يؤرخ به للعلم في الدوائر الرسمية – من اليونان إلى أوروبا، ثم أمريكا وما والاها؛ وحتى اليابان وسنغافورا ومثيلاتهما، ليستا سوى ظل للغرب، في الجانب العلمي والصناعي والتكنولوجي؛ وليستا نموذجا آخر مختلفا، بأي حال من الأحوال.
ويبقى العالم الإسلامي شرقا، هو أقرب الشرق إلى الغرب؛ وهو – كما يذكر هنتغتون – يلامس الغرب بحرا وبرا؛ من طنجة إلى جاكرتا – بعبارة ابن نبي –؛ وباقي الشرق له مسافة تفصله عن الغرب، ولا يتأثر به، ولا يؤثر مباشرة؛ بل إنَّ بعض الأمم الإسلامية هي غربٌ بحكم الجغرافية، شرق بحكم الديانة؛ من مثل: الأندلس، والبوسنة، وبلاد الروس… الخ.
العالم الإسلامي وحده هو الذي يلتصق بالمصدر الأخير من الوحي، وهو مصدر للعلم، كما هو مصدر للأخلاق والقانون، وللمجتمع والفرد؛ وهو إذن مصدر للطب، والفلك، والزراعة، والجغرافية، والتاريخ… وهو المصدر الوحيد الذي يمكنه أن يدرس الإنسان دون أن يقيده، أو يسجنه، أو يجزئه، أو يبعّضه؛ فليس لدراسة الإنسان في كلياته سوى القرآن الكريم؛ وما عداه، يقصر بالضرورة عن دراسة الإنسان كما هو، لا كما يتم اقتراحه.
وبما أنَّ “الزمن والوقت” موضوع مغاير لكل المواضيع العلمية، إذ لا يمكن تحييده، ولا ملامسته، ولا رؤيته، ولا سماعه؛ بل ولا يمكن تعريفه إلا وهو متصل بغيره؛ فالشجرة عنوان للزمن حين تلقي بأوراقها في فصل الخريف، والشمس دليل على الوقت حين تستعد للغروب، والإنسان أثر للزمن حين ينتقل من طفولة إلى شيخوخته في مسيرته الطويلة… وهكذا.
بما أنَّ هذه المعضلة بادية للعيان؛ فإنَّ “خالق الإنسان” هو وحده القادر على أن “يجمع بين خلقه”: بين الإنسان والزمان، على صعيد واحد، بلا اهتزاز، ولا اضطراب، ولا وهم، ولا شك، ولا تخمين… بل، إنه قادر على أن يخبر الإنسان عن الإنسان قبل أن يتشكل في صورة آدم عليه السلام، وأن يعرفه بالإنسان يوم كان ذرا، وبالإنسان وهو في الجنة… ثم ينزل مع الإنسان إلى الأرض، ويحيا معه ويكون سببا لحياته فيها، بكل ما يحمله الزمن الفيزيائي الأرضي، ثم النفسي والاجتماعي… من دلالة؛ ثم حين يغادر الإنسان الحياة، يرافقه القرآن، ويبين أزمنته المختلفة، من القبر، إلى الحشر؛ ثم إلى الجنة أو إلى النار… إلى ما نهاية، أي “إلى الأبد”.
أيُّ مصدر غير القرآن يملك من الوثوقية، والدقة، والصرامة المنهجية، والصدقية، والهيمنة… ما يمكنه من إمدادنا بصورة كاملة للإنسان، وبصورة غير منقوصة للزمان؟
وهل مصدرية القرآن تلغي مرجعية غيره؟
لا بدَّ من الإقرار أنَّ القرآن يحيل إلى مصادر أخرى، ويوجه إلى منطلقات أخرى، مثل: الكون، والتاريخ، وسير الأنبياء… أي أنَّ القرآن في عمقه لا يقوم على فكرة الإقصاء؛ بل يربي على فكرة البناء؛ علما أنَّ القرآن يتأبى على الملكية، وهو فوق الانتماءات الضيقة بجميع أشكالها؛ فالقرآن هو “صورة من الإنسان” (نسخة) كما يقول علي عزت بيجوفيتش.
والقرآن والكون وجميع المصادر الأخرى، مثل صورة فوتوغرافية بها: الفيلم السالب والموجب، وتطبع بألوان كثيرة، وبنسب متفاوتة، وبدقة عالية، وبأحجام متباينة، وعلى حوامل مختلفة… حتى تنتهي صورة شبيهة بالواقع، محاكية له، قادرة على تبليغ الرسالة، وبناء التصور ثم الحكم.
لكن، يبقى السؤال المحوري هو: ما المسوغ لاعتبار القرآن وحده هو المصدر المطلق للبحث في الإنسان وفي الزمان؟
وهو سؤال مشروع وأساس؛ سأفرد له عنوانا خاصا في أوانه.
ثانيا- الوسيلة المنهجية: العالم الرقمي
هذا عن المصدر؛ أما الوسيلة المنهجية؛ فيعود الفضل فيها إلى الغرب في عقوده الأخيرة؛ وهي أنَّ الباحثين قبل عقدين أو ثلاثة، كانوا مضطرين إلى السفر كثيرا لأجل الحصول على “كتاب”، أو “الالتقاء بعالم”، أو ولوج متحف، أو مناقشة ورقة بحثية… وقد يتعذر عليهم ذلك، لأسباب سياسية، أو إدارية، أو مالية، أو حتى اعتبارية ونفسية.
كارل بروكلمان، وقدري طوقان، وجورج سارطون، وتوماس كوهن، وفؤاد سوزكين وغيرهم؛ كانوا جميعًا، وهم يكتبون عن العلم، محكومين بالحدود، ومقيدين بالبروتوكولات، ومحاطين بضيق المكان، ومهددين بصارم الزمان… ومع ذلك بذلوا جهودا معتبرة، وأنتجوا لنا تراثا علميا معتبرا، بخاصَّة فيما يمسُّ تاريخ العلم، ونظرية المعرفة، والتنظيم والتصنيف… أمَّا اليومَ، فبين أيدينا إمكانيات تفوق ما كان بين أيديهم بملايين المرات؛ وهذا لا يعني بالطبع أننا نتفوق عليهم في مستوى الجهد، أو الإبداع، أو العمق، أو الصرامة المنجهية، أو الملكات العلمية… وإنما، هي لنا فرصة وتهديد؛ أنَّ الواحد منَّا كلَّما احتاج إلى “كتاب”، أو “مؤسسة”، أو “عالم”، أو “معلومة”، أو “تعريف”… أمكنه إيجاد الجواب في بضع ثوان، متجاوزا بذلك الحدود الجغرافية، واللغة، والقيود التنظيمية… الخ.
ثم إنَّ الحجم الهائل من المعلومات التي بين أيدينا، لم تكن متاحة قبل عقود لدول برمتها، ولا لجامعات ومراكز للبحث على كبرها، ولا للعلماء المعتبرين بكل ما أوتوا من قوة وجهد؛ فمثلا قرأت في كتب التراجم أن موقت الجامع الأموي ابن زريق (ت. 977هـ/1569م) له كتاب بعنوان “الروض العاطر في تلخيص زيج ابن الشاطر”، وأنَّ نسخة منه توجد في “دير الشرفة بلبنان”؛ بالوسائل القديمة، لا بد من السفر، أو توكيل من يصور المخطوط، وقد يستهلك ذلك شهورا، أو أياما، أو أكثر من ذلك أو أقل؛ ولقد يتعذَّر التصوير، فيلزم التنقل وقراءة الكتاب في المكتبة.
أما اليومَ، ومع الوسيلة المنهجية الكونية، تمكنت في بضع دقائق أن أنزل نسخة مخطوطة، كتب عليها:
“اشتمل هذا المجموع على ثلاثة مؤلفات لعبد ربه محمد بن عبد الرازق: حساب المثلثات بالربع المجيب، تقييد في بيان الغروب الميقاتي والشرعي، المستطاب من عمل الأسطرلاب” وعليه “موافقة الشيخ الجليل العلامة النبيل الأصيل سيد محمد العلمي”.
هذا مثال واحد، من بين آلاف الأمثلة، من الحصول على مصادر ومراجع مخطوطة، ومطبوعة حجريا، ومطبوعة ورقيا، ورقمية… ومن مختلف اللغات؛ بل في الإمكان أحيانا أن أتصل بالمؤلف إن كان حيا، أو بالمحقق، أو بدار النشر…؛ وأن أدخل في تواصل علمي، وتبادر معرفي معه.
كلُّ هذا، جعل في الإمكان وضع “مكتية العالم” تحت نقر الأصابع، في وقت قياسي؛ ومن ثم أمكن التحقق من معلومة كانت تستغرق وقتا طويلا، أو تستحيل أحيانا، في وقت قياسي، وبدقة عالية.
إذن، هذا السبب المنهجي، هو الذي يسوغ لي أن أعلن عن إمكان تأسيس علم جديد، ونفي وجوده بعد بحث حثيث، ووضع معالمه بالعودة إلى ماضي الفكر البشري من مصادره، ثم حاضره في جميع دوائره العلمية والبحثية.
ولعلَّ هذا العنصر يوافق نظرية لاكاتوس، من كون العلم لا يتطور بالأزمات، كما زعم كوهن؛ وإنما تطوره “الآلة والجهاز والوسيلة”؛ فبمجرد صناعة نوع معين من المناظر، أو بناء مرصد من المراصد؛ تتغير المعطيات رأسا على عقب؛ ثم تتغير أسس ذلك العلم بالتبع، في أسرع من البرق.
ولكن الخطر الحقيق يكمن في العجز المحتمل، إذا ما استسلم الباحث للحجم الهائل من المعلومات، ولم يتمكن من صياغة خيط ناظم، ومنهجية دقيقة؛ فتوفر المادة بهذه الغزارة والسيولة لا يمنح بالضرورة القدرة على “رفع دعوى التأسيس”؛ ولكن يضاف إلى ذلك، كما ذكرتُ من قبل: التغيير في المصدر، وكما سأبين لاحقا: وجود أزمة دافعة لإيجاد النموذج البديل.
ثالثا– أزمة العلم: العالـَم ما بعد الوباء
أمَّا هذا العنصر، فيتبنى مذهب كوهن في الثورات المعرفية؛ ذلك أننا منذ خمسة عشر عاما، ونحن نؤسس لنموذج بديل، مستوعبين الأزمة النماذجية، بخاصَّة في “الفكر والحضارة”، وكذا في البحوث القرآنية والعقدية، وفي الممارسة العلمية للتربية والتغيير الاجتماعي؛ وانتهينا إلى صياغة “نموذج الرشد”، استنادا إلى العقل الجمعي، وإلى حركية الفكر والفعل.
لكن، بسبب أزمة وباء الكوفيد 19؛ دخل العالم نفقا من الخوف، وانتهى إلى اليقين أنَّ العلم لم يعد كما كان مصدر أمانٍ واطمئنان؛ بل تحول إلى مصدر للخوف والقلق؛ فلم يتمكن من إيقاف انتشار الجائحة، ولا حتى من إيجاد الدواء اللازم لها؛ فراح يتخبط ولا يزال؛ ولعلَّ أكثر الناس قلقا هم المشتغلون بالعلم المنظم في المراكز الغربية، ذلك أنهم لم يقدروا أن يستوعبوا الظاهرة، وإنما اختزلوها في معلومات سطحية، صارت متوفرة لدى كل إنسان؛ ثم دخلوا في صدام محتدم فيما بينهم، ولم يعد هنالك عالم وجاهل، ولكن عامل في مواجهة عالم، بل علم في صراع مع علم آخر.
الأزمة إذن، كانت سببا مفعّلا، وباعثا فاعلا، لي أن أعيد التفكير في “بناء المعرفة البشرية”، في شقيها الغربي والشرقي؛ قد يكون ذلك يجرأة يعتبرها البعض شجاعة، والبعض الآخر تهورا؛ لكن اليقين أنَّها جرأة لا بديل عنها؛ ما دام ما أقدم عليه يقع تحت “تصوري”، وفي حدود خطي المنهجي لثلاثين عاما على الأقل.
الأزمة أظهرت وجوب تغيير مصادر المعرفة، وإعادة قراءة منابع العلم؛ وليس الجديد في ذلك هو أن نقول: إنَّ الوحي هو المصدر الأول؛ ثم ندافع عن “القرآن وكفى”؛ لكن التحدي يكمن في أن نقدم على “إنزال الدعوى إلى واقع المعرفة البشرية”، في موضوع متجاوز لمحدودية الانتماء المذهبي، والأيديولوجي، والتخصصي؛ إلى سعة “الإنسان” في صورته التي خلقه الله تعالى بها، وفي مهمته التي كلفه الله بها، وفي ملكاته التي أودعها فيه من يوم خلقه، وفي ضعفه الذي هو ملكة من ملكاته التي لا تنفصم عنه، وفي سموه أحيانا إلى أعلى هرم الخلق، وسقوطه أحيانا أخرى إلى أسفل سافلين… في كل ذلك، وجب إعادة بناء المنهج؛ لإعادة بناء الحياة التي تقترح النموذج البديل، بعد التحول في النموذج؛ وكل ذلك يكون بعد الأزمة؛ ولا أعتقد أنَّ البشرية عرفت أزمة كونية، لم تستثن أحدا، ووباء كونيا هدد الجميع، ومعلومات كونية غيرت سلوك الناس كلهم، واقتراح لقاحات كونية تطال البشرية قاطبة… لا أعتقد أنَّ مثل هذه الأزمة عرفتها البشرية يوما ما؛ فكل الأزمات السابقة، قد تكون عالمية باعتبار، ولكنها محلية باعتبارات كثيرة.