علم اجتماع الفراغ

علم اجتماع الفراغ

بعد بحث في مختلف المكتبات، وتصفُّح للعديد من البحوث والدراسات التي لها مدخل زمنيٌّ، قيَّدتُ جملة من العلوم، مـمَّا له صلة وثيقة بالبرمجة الزمنية، إمَّا في طبيعة مادَّتها، أو في منهجها، وقد صنفتها في لائحة استبعدت منها ما يعالج جوانب من الزمن غير الزمن الإنسانيِّ، مثل: الزمن الميتافيزيقي، والرياضي، والفزيائي… أو ما يعالج الزمن الإنسانيَّ من مداخل بعيدة عن البرمجة الزمنية.

ومن هذه العلوم:

  • علم إدارة الوقت.
  • علم اجتماع الفراغ.
  • الترويح (التربية الترويحية).
  • ميزانية الوقت.
  • دراسات النوم والأرق.
  • علم “الساعة البيولوجية”.

علم اجتماع الفراغ:

علم اجتماع الفراغ “Sociologie du loisir” فرع من فروع علم الاجتماع، ولقد «أوضح كثير من الدارسين المعاصرين الحقيقة التي مؤدَّاها أنَّ الفراغ هو نتاج المجتمع الصناعيِّ الحديث»([1])، فهو نتيجة طبيعية لتوقُّف “المعبد” عن استقطاب الإنسان في حياته اليوميَّة، وهو أيضا إعلان عن نهاية عهد “الثورة الصناعية” التي ربطت الإنسان بالآلة – لأكثر من قرن – في أغلب أوقات يومه.

ويمكن القول إنَّ علم اجتماع الفراغ يمثِّل «ثورة ثقافية حقيقيَّة، ذلك أنـَّه غيَّر كلِّية علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بالمحيط»([2])، ولهذا قيل: «إنَّ وقت الفراغ هو أبو الفلسفة»([3]) المعاصرة.

ولقد اختُلف كثيرا في تعريف وقت الفراغ، مع الإجماع على أنَّ أصل كلمة “Loisir”،
Leisure” لاتينيٌّ، والذي يعطي بدوره كلمة “Licite”([4])، ومعناها: «التحرُّر من قيود المهنة، أو الوظيفة، أو العمل، أو الارتباطات»([5]).

وللتعريف الاصطلاحيِّ نختار تعريفين نراهما الأنسب لبحثنا:

  • الأوَّل: أنَّ وقت الفراغ يعني الوقت الذي «يتحرَّر فيه الفرد من العمل يوميًّا، أو أسبوعيًّا، أو سنويًّا»([6]).
  • الثاني: هو «الوقت الفائض بعد خصم الوقت المخصَّص للعمل، والنومِ، والضرورات الأخرى، من الأربع والعشرين ساعة»([7]).

ولضبط مصطلح الفراغ ضبطا دقيقا، ينبغي أن نوضِّح مفاهيم كثيرة، أهمُّها: مفهوم العمل، ومفهوم الراحة، ومفهوم الحرية، ومفهوم وقت العمل، ومفهوم وقت الراحة، ومفهوم الوقت الحرِّ… ولكلِّ تعريف من هذه التعاريف عمقه الفكريُّ، والفلسفيُّ، مـمَّا ولَّد اختلافات جذرية في حدِّها([8]).

ويدرس علم اجتماع الفراغ كلَّ ما له علاقة بوقت الفراغ، من ذلك:

  • تاريخ وقت الفراغ.
  • طرق استثماره.
  • أثره في التربية والتعليم.
  • تأثيره على العمل، وتأثير العمل عليه.
  • مراحل العمر ووقت الفراغ.
  • الجنس (ذكر، أنثى) ووقت الفراغ.
  • الفراغ والنظُم الاجتماعية.
  • الفراغ والقيم الثقافية.
  • صناعة الفراغ (اقتصاد الفراغ، تجارة الفراغ)… الخ.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الدراسات والأبحاث في علم اجتماع الفراغ تكاد تكون معدومة وغير معروفة «في العالَم العربيِّ، بالرغم من ظهورها وانتشارها، وتداولها وتدريسها في جامعات وأكاديميات الدول الصناعية المتقدِّمة»([9])؛ فيمكن أن نحدِّد تاريخ البواكير الأولى – من المؤلَّفات – باللغة العربية مع أوائل الثمانينيات([10]).

ولا يخفى أنَّ العلاقة بين البرمجة الزمنية وعلم اجتماع الفراغ هي علاقة احتواء؛ فإنَّ الفراغ جزء من اليوم، وهو ممَّا ينبغي برمجته والتخطيط له، لإنزاله في الوقت المناسب له، بعد تحديد مفهومه، وحجمه، وحصر أنواعه…

ولعلَّ من أبرز الإشكالات التي تفرض نفسها في هذا الاتجاه، إشكالية تصنيفزمن العبادة، فهل يُعتبر من جملة وقت الفراغ؟ أم أنـَّه ملحق بوقت العمل؟ أم ينبغي أن يكون مستقلاًّ عن كلِّ ذلك؟ فإنَّ الملاحَظ في الدراسات الحالية أنـَّها تقزِّم “الممارسة الدينية” وتصنِّفها ضمن آخر أنواع الأعمال في وقت الفراغ… وفي أغلب الأحيان تغفل عنها، بل وتهملها.

ثمَّ، ما مفهوم الفراغ في القرآن الكريم، وفي السنَّة الشريفة، وفي التراث الإسلاميِّ؟ هل هو نفس المفهوم المتداوَل في هذا العلم؟ أم يوجد ثمَّة اختلاف وتباين؟

هذه الأسئلة تبرز العلاقة بين علم اجتماع الفراغ والبرمجة الزمنية، وقد نستطيع أن نجيب عن بعضها في بحثنا هذا، وقد لا نستطيع، فتبقى بالتالي محلاًّ للدراسات التخصُّصيَّة المستقبليَّة، سواء من الباحث نفسه، أو من باحثين آخرين.


[1] –  محمد علي محمد : وقت الفراغ في المجتمع الحديث، مبحث في علم الاجتماع؛ دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر؛ 1981م؛ ص51.

[2] – Sue Roger: Temps et ordre social, ed. Puf, le sociologue, France, Ire ed: 1994, p111.

[3] –  نُسبت هذه المقولة للفيلسوف هوبز، انظر- محمد علي: نفسه؛ ص5. 

[4] – . Sue: Temps et ordre social, p112

[5] –  درويش كمال والحماحمي محمد: الترويح الرياضي في المجتمع المعاصر؛ مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرَّمة، ط1: 1408هـ/1987م؛ ص23.

[6] –  بدوي: معجم مصطلحات العمل؛ ص227.

[7] –  محمد علي: وقت الفراغ في المجتمع الحديث؛ ص94. وعطيات محمد خطاب (الدكتورة): أوقات الفراغ والترويح؛ دار المعارف، القاهرة، ط5: 1990م؛ ص17.

[8] –  Leif Joseph: temps libre temps a soi, L’enjeu éducatif et culturel: ed. ESF. France, 1984. pp13 – 32.

[9] –  إحسان، محمد الحسن: الفراغ ومشكلات استثماره؛ دار الطليعة، بيروت، ط1: 1986م؛ ص5، 6.

          ويذكر “سيو” أنـَّه يمكننا اليوم أن نتحدَّث عن مدرسة كَنَدية لعلم اجتماع الفراغ، وكذلك في إيطاليا وسويسرا، أمَّا في فرنسا فيسجَّل نوع من التأخُّر في هذا المجال، ويذكر أنَّ «الفريق الكندي لعلم اجتماع الفراغ يصدِر مجلَّة دولية متخصِّصة بعنوان “الفراغ والمجتمع” نشر مطبعة جامعة  الكيباك»  Sue: Temps et ordre social, p115 

[10] –  ذكر الدكتور إحسان محمَّد (1986م) أنَّ بحثه يعدُّ «الأوَّل من نوعه باللغة العربية» – المرجع السابق؛ ص6 – غير أنَّ الدكتور محمَّد علي قد سبقه بسنة على أقلِّ تقدير. ولم نتمكَّن من معرفة أوَّل بحث في الموضوع.

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

Daily Programming Rules from the Holy Sunnah

Daily Programming is not just a number of deeds to accomplish during the day; night …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *