اللغة العربية أغنى اللغات في التعبير عن الزمن والوقت

ما حقيقة هذا الحكم؟ وما الفائدة منه؟

كثير من الأحكام المألوفة التي تتكرَّر على ألسنة الناس، ويرد ذكرها في المصادر والمراجع، تحتاج إلى “معالجة علمية”، لمعرفة مدى “صدقها”، وللنظر في مدى “أهميتها وفاعليتها”.

و”الزمن والوقت” من المواضيع التي تتردَّد فيه مثل هذه الأحكام، دون بحث أو تعمُّق؛ فمثلا نقرأ عند سلامة السقا قوله: “تنفرد اللغة العربية – لغة القرآن – بثرائها بالمفردات المعبرة عن مختلف المفاهيم المتعلقة بالأزمنة والأوقات، حيث لا تضارعها في ذلك لغةٌ أخرى”.

وحتى بعض المستشرقين الذين اهتموا باللغة العربية انتهوا إلى نفس الحكم، يقول العالم الألماني فريتاخ: “اللغة العربية أغنى لغات العالم”؟

ونحن لسنا بصدد إثبات هذا الحكم أو نفيه؛ ذلك أنه حين يُضاف إلى اللغة العربية قاموسها الأبدي “القرآن الكريم” يتحوَّل الحكم إلى مقامٍ أرفع من مجرَّد “الملاحظة العلمية”، ويكون صدقُه من باب “الإيمان العقدي”؛ بأنَّ القرآن الكريم “غير ذي عوجٍ”، وأنه لا أحد يستطيع أن يأتي بمثله؛ سواء في ذلك ما كان من ألفاظ، أم جمل، أم آيات، أم سور، أم معان…

وإنما أردتُ التنبيه إلى “علمية الحكم”، وأن أجيب عن سؤال هو: هل حقيقةً اللغة العربية هي أغنى اللغات في التعبير عن الزمن والوقت؟

دليل القائلين بهذا هو أنَّ “لساعات اليوم في اللغة العربية أسماء” وليس ذلك ممكنا في اللغات الأخرى؛ ومن العجب أن يعدُّها بعض المتأخرين بأربع وعشرين ساعةً، وكأنَّ الأسماء وُضعت متطابقة للساعة الآلية المعروفة في زماننا؛ والصواب أنَّها سابقة على تقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة.

فمثلا حين نوظف مصطلحات مثل: “الهاجرة”، و”الغسق”، و”الغلس”، و”الظهر”… وغيرها؛ هل هي متساوية في المقدار، وهل تساوي ستين دقيقةً أي ساعةً من الساعات الآلية المعروفة (أي 15 درجة)؟

من المؤكد أن لا أحد يقول بذلك، فكلُّ مصطلح له مقدار زمنيٌّ، بل هذا المقدار يختلف من يوم إلى يوم، ومن فصل إلى فصل، ومن بلد إلى بلد…

لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ “الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره”، والقول إنَّ أيَّ لغة أخرى لا تضارع اللغة العربية في التعبير عن ألفاظ “الزمن والوقت”، هو قول يفترض أنَّ المقارنة تمت مع جميع لغات العالم، بلا استثناءٍ، في استقصاء تامٍّ غير ناقص؛ وإلاَّ كان الحكم ناقصًا غير صحيح؛ فمَن من العلماء استقصى لغات العالم، ثم قارنها باللغة العربية، ثم انتهى إلى أنَّها ليست في مثل ثراء اللغة العربية في التعبير عن الزمن والوقت؟

ثم إنَّ مثل هذا الحكم، يخاف منه أن يكون دليلا علينا لا دليلا لنا؛ ذلك أنَّ اللغة العربية باعتبار أنها أغنى لغات العالم في التعبير عن الزمن والوقت، غير أنَّ أهلها اليومَ هم أقلُّ الناس استثمارا للوقت في جميع المستويات والسياقات والسباقات؛ لقد توقفت عجلة الحركة عندهم، ولا تبدو أمارات في الأفق تبشر بإمكانية الحركة للأسف. ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ “أسماء الآلات الزمنية” كلها اليوم تترجم من لغات مخترعيها، وكذا المقادير الفزيائية الجديدة، وأسماء العلوم الزمنية… الخ.

فاللغة العربية قوية بذاتها ضعيفة بنا، بينما اللغات الأخرى على افتراض ضعفها، فهي ضعيفة بذاتها قوية بأهلها؛ ولذا وجب أن نحذر من مثل هذه الأحكام العامَّة، والعبارات الفضفاضة، وأن نحرص على “حقيقة الأمر”، و”حقيقة الأمر” أن نعيد للوقت في سلم الحضارة مكانته وقيمته، وأن نحوله إلى عمارة للأرض، وإلى بحث وصناعة وممارسة، وإلى تمكين واستخلاف موعود من الله تعالى لنا إذا نحن استجبنا له…

والله ولي المحسنين.

د. محمد باباعمي

معهد المناهج، الجزائر العاصمة

الثلاثاء 1 ربيع الأول 1444ه/27 سبتمبر 2022م

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/
تفكُّرٌ في مراحل العمُر

شاهد أيضاً

رمضان :: من موشور “علم البرمجة الزمنية”

بسم الله الرحمن الرحيم د محمد باباعمي علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *