مقاربة في فهم الزمن النبوي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمانُ، فتكون السنة كالشهر، والشهرُ كالجمعة، وتكون الجمعةُ كاليوم، ويكون اليوم ُكالساعة، وتكون الساعةُ كالضرمة بالنار” (رواه الترمذي)
قراءة متأنية لهذا الحديث الشريف، من موشور “علم الزمن والوقت”، تدفعنا للسؤال عن جملة مما يبدو واضحًا، لكنه بالتعمق يتبين أنه في حاجة إلى تدقيق، ومثال ذلك:
– مفهوم الساعة في قوله عليه السلام: “ويكون اليوم كالساعة…”: هل هو مقدارٌ من الزمن غير محدد، أم أنه المدلول المعروف اليومَ، أي هي جزء من أربع وعشرين جزءا من اليوم؟
– ما هو مفهوم “تقارب الزمان”؟ وهل له علاقة بالمفاهيم الفزيائية المعاصرة، من مثل: “تقلص الزمن”؟ و”تسارع الزمن”، و”السفر في الزمن”؟
– كيف نفهم الصورة الإدراكية الفنية التي تشبّه “الساعة” في آخر الزمان بـ”الضرمة بالنار”؟ وما معنى الضرمة بالنار؟ وما أوجه الشبَه؟ وهل عقولنا قادرة على إدراك حقيقتها، وهي من علم الغيب؟
– ثم ما الفائدة العملية التي نجنيها من الحديث، حتى لا يتحوَّل إلى مجرَّد خطابٍ فاقد للأثر، وإلى مواعظ باردةٍ لا تحرك فينا العمل؟
مفهوم الساعة:
لا ريب أنَّ تقسيم اليوم إلى أربع وعشرين جزءا، كلُّ جزء يسمَّى ساعة، هو من أقدم ما أنتجته البشرية في العلوم، والغالب في المصادر أن يحال إلى البابليين السومريين في العراق؛ أي قبل الإسلام، وقبل أن يرد هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هل كان عليه السلام يعرف هذا التقسيم؟ حتى لو عرفه، هل قصده في حديثه الشريف؟ وهل استعمله في حديث من أحاديثه الأخرى؟ وهل فسَّر به آية من القرآن الكريم، مما ورد فيه لفظ الساعة؟ بل، ومتى استعمل العرب الساعة بالمفهوم الآلي الذي نعرفه اليومَ؟
ومعلوم أنَّ العرب قسَّمت اليوم إلى ساعاتٍ، وسمت كلَّ ساعة باسم من الأسماء، مثل: “الضحى، الهاجرة، الأصيل…”؛ غير أنَّ هذه الساعات ليست متكافئة في القدر، وليست متساوية في الحجم؛ أي أننا لا يمكن أن نجزم أنها من قبيل الساعة الآلية المنضبطة بالدقائق والثواني.
لكنَّ القارئ لمصادر علم الفلك، والمصادر العلمية في قياس الزمن والوقت، في القرن الثالث والرابع الهجري، يجد أنَّ العلماء المسلمين كانوا على دراية بتقسيم الساعة حسب حركة الشمس؛ ولقد ألَّفوا في ذلك كتبا ومقالات وأبحاثا، وصنعوا آلات للظل وغيره، وقاموا بحسابات الزيج؛ فمثلا ألف يحيى بن أبي منصور (ت. 217ه) رسالة بعنوان: “مقالة في عمل ارتفاع سدس ساعة لعرض مدينة السلام”؛ ومحمد بن عيسى الماهاني (ت.275ه) له مقالة بعنوان: “مقالة في معرفة السمت لأي ساعة أردتَ، وفي أي موضع أردتَ”.
فالراجح إذن أن يكون مفهوم الساعة في الحديث الشريف، هو مقدارٌ قصيرٌ من الزمن، لا يبعد كثيرا عن المقدار الذي نعرفه اليومَ؛ قد يزيد وقد ينقص؛ لكنه يبقى متصوَّرا لدى السامع، الذي يُدرك أنه أصغر جزء استعمله العرب في تقسيم اليوم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يرد استعمالهم للفظ آخر مثل الدقيقة، والثانية… مثلا.
ولا يقدح ذلك في الحديث الشريف، لكنه يدل على عالمية الرسالة وكونيتها، وأنها لا تتعلق بالمصطلحات العلمية الدقيقة، التي لا تلبث أن تعدَّل وتصحَّح وتدقَّق بمرور العصور؛ ويكفي من الهداية النبوية أبعادها التوحيدية الكونية والتشريعية؛ وتبقى الوحدات مجالا خصبا للبحث والتطوير.
معنى تقارب الزمان
يمكن أن يفسَّر “تقارب الزمان” في الحديث النبوي الشريف تفسيرا معنويا أو حسيًّا؛ ولكل تفسير فريقٌ من العلماء يؤيده؛ فالتقارب المعنوي يعني زوال البركة، والإحساس بالسرعة، وقلَّة الانتفاع بالزمن لأسباب وموانع كثيرة.
أمَّا تقارب الزمان حسيًّا، أي في حقيقته المادية، فهو أن يصير العام بحجم الشهر، والشهر بحجم الجمعة، والجمعة بحجم اليوم، واليوم بحجم الساعة؛ فهو مما يمكن أن يقع عند حلول علامات آخر الزمان؛ فالحديث ينبغي أن نتذكر أنه في وصف هذه العلامات؛ وآخر الزمان لا ينضبط سَننيا مثل انضباط سائر الأعصر.
ولقد أحال البعض إلى مفهوم “تقلُّص الزمان” لتفسير معنى “تقارب الزمان”؛ وهو مفهوم فزيائي؛ متعلق بالعلاقة بسرعة الضوء، مما هو مبثوث في مصادر النظرية النسبية بخاصة؛ غير أنَّ التكلف ظاهر في مثل هذه الإسقاطات التي لا تستند إلى دليلٍ علميٍّ معتبَر. ولقد يكون “تقارب الزمان” صورةً لا نعرفها اليوم، بل سيكتشفها الناس حين يعاينون علامات الساعة؛ وتكون فوق التصور العلمي، وفوق التنظير الفزيائي؛ إذ الحديث في علامات الساعة كما تقدم بيانه.
الساعة كالضرمة من النار:
الضرمة بالنار، ما يُضرم به النار، من مثل كبريتٍ أو عود ثقابٍ؛ أو ما يُشعل فيه النار من مثل سعفةِ نخلٍ أو حشيش يابسٍ؛ وفي كل الأحوال هو تشبيه يحيل إلى سرعة انقضائها (انطفائها)، وإلى زوال البركة منها؛ وهي صورة ألفها العربي والبدوي الذي يوقد النار دائمًا؛ ويدرك مدى سرعة الاشتعال في بعض النباتات.
ولقد حاول بعض المحدَثين أن يسقط مدلول الحديث على زماننا، ويقول إنَّ وسائل التواصل السريعة، هي التي جعلت الوقت يمر بسرعة فائقة؛ وتزول البركة منه، فالإنسان يملك وسائل للنقل تقلص له المسافات والأعمار، ويسافر في اليوم الواحد مسافات كان يقطعها في شهور أو سنوات؛ وفي الساعة الواحدة مسافات كان يقطعها في أيام أو شهور.
ولا بأس من هذا التوجيه؛ لكن على أن لا يحجر على المعاني الأخرى، التي تستدعي حالات لا نعرفها اليوم، وهي ستكون وليدة المستقبل؛ فآخر الزمان غير معلوم لدى الناس بالتحقيق، وما يقع فيه لا يعدو في فهمه “المعنى اللغوي”؛ وفي القرآن الكريم، والسنة النبوية، الكثيرُ من الأوصاف لقيام الساعة، لكن العقل ينتهي إلى الاعتراف أنه فهمٌ على قدر الإدراك القاصر، وأنه لم يتجاوز العلم المحدود إلى التحقيق والعلم المنتهي.