تفكُّرٌ في مراحل العمُر

(الحياة هي الرضا، والرضا هو الحياة)

الإنسان -مهما بلغت به الحال- لا ينامُ على جنبٍ واحد؛ ذلك أنَّ الأيام قلَّب؛ وأنَّه خُلق للكبد؛ وأنَّ الحياة لا تفصَّل على المقاس؛ وليس للإنسان ما تمنَّى، “وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى”.

يولد الولد فيعيش الطفولة في كنف والديه وأهله؛ ثم يكبر سريعا، ويبني عشًّا؛ وفي كل مرَّة يمنـِّي النفس أنه إلى أفضل سائر، وإلى الرخاء قاصد، وأنَّ الحياة ستبتسم له فلا يرى مكروها، ولا يسمع أذى، ولا يحسُّ ألما؛ غير أنه سرعان ما يكتشف أنَّ ذلك مجرَّد وهم؛ وأنَّ الحياة قرينة الرضا؛ فإن رضي بمرحلة آتاه الله تعالى حلاوتها؛ وإن سخط على مرحلة تجرَّع مرارتها؛ ولا ينفع في ذلك صحة ولا مرض، شدة ولا سعة، غنى ولا فقر… 

حتى الوجع والألم يجد فيهما “من رضي” متعة لا تقاوَم؛ ذلك أنَّ المؤمن يعتقد أنه “من يعمل سوءًا يجزَ به”؛ وأنَّ المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل قول الله تعالى من سورة النساء: “من يعمل سوءا يجزَ به”، فبلغت الآية من المسلمين مبلغًا شديدًا؛ فقال عليه السلام زارعا الطمأنينة في قلوبهم: “قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفَّارة، حتى النكبة ينكبها، والشوكة يُشاكها”.

لستُ بِدعا من الناس؛ ففي كل مرحلة تختلط عليَّ النعم بالألم؛ تارةً في المال، وأخرى في الصحة، وثالثة في العلاقات، ورابعة في حال الأمَّة، وخامسة، وسادسة… فلا أكاد أجد الراحة المطلقة، ولا السعادة الوردية؛ ولكن كذلك لا أعرف التعب المطلق، ولا الشقاء الأسود… بين بين؛ يومٌ ويوم؛ ومع كل ذلك، وفي كل ذلك؛ أجد أنَّ علاقتي بربي هي الميزان، وهي المؤشّر؛ هي قلبُ القلب، وهي لبُّ اللب؛ فإن تكن على أحسنِ حالٍ، كنت أحسنَ حالاً؛ وإن يكن فيها اضطرابٌ، تكُن في أسوء حالٍ.

ولم أجد أسرع بالمرء إلى السخط من “المقارنة” في كلّ شيء؛ فإن تكن مُقارِنا نفسَك مع الغني في غناه، ومع المشهور في شهرته، ومع المحظوظ في حظه، ومع الصحيح في صحته، ومع الوسيم في وسامته، ومع الحاكم في سلطته… فإنك لن تجد الراحة فيما أنت فيه؛ ولن تحمد الله تعالى على ما أنت عليه؛ ولن تستتبع من الله الزيادة والنماء… ذلك أنك تفضُل ناسًا ويفضلك آخرون؛ ولا أحد يفضُل الناس في كل شيء، أو يفضله الناسُ في كل شيء؛ فإن تـُحرم شيئا فإنك قد أعطيت أشياء، وأن تعطَ شيئا فإنك قد حرمت أشياءً؛ ما أنت فوق الناس، ولا أحسن منهم؛ وما أنت أسفل من الناس، ولا أخسَّ منهم؛ إلاَّ بما حباك الله به من كرامة، ومن تقوى، ومن طاعة، ومن قبول…

ولئن كنت مقارنا أو مُقرِنا ولا بدَّ؛ فقارن نفسك واقرنها بأهل الهمَّة والمبادرة، وأهل الإتقان والإحسان في كل شيء: في العلم والعمل، في النفع والنصح، في النظافة والنظام، في الصدق والنُّصح، في عمارة الأرض والضرب فيها، في التواضع والرفق، في الاعتذار من الخطأ والتوبة، في الفهم والرؤيا… ذلك أنَّ المنافسة مشروعةٌ في الأسباب، أمَّا النتائج فهي بيد مالك الأسباب.

أخي، أختي… الحياة هي الرضا، والرضا هو الحياة…

واعمل ليومٍ يقال عنكَ، وفيكَ، ولكَ، يا سعدَ ذلك اليوم: “يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”.

واعلم أنَّ الرضا مشروط بخشية الله، لقوله تعالى عن السعداء المحظوظين: “رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربَّه”.

د. محمد باباعمي

باسة وافضل، بني يسجن

صبيحة الاثنين 2 صفر 1443ه/ 29 أوت 2022م

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/
اللغة العربية أغنى اللغات في التعبير عن الزمن والوقت
والعاديات ضبحا… فالمغيرات صُبحا…

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *