“الرشيد الرشيد مَن أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمَّر وقته بالأعمال… والسفيهُ السفيه مَن أساء التصرُّف فيه، فأخلى وقته من العمل” (ابن باديس)
توشك “صورة الزمن”[1] أن تفضح صاحبَها، فتكشفَ عن خفايا فكره، وتُبلي خبايا فعله؛ فحين تصمتُ اللغة، وتفقد الألفاظ مفعولها[2]؛ وحين تتلاطم أمواج الزمن، حاملةً الأصداف من القاع، أو كاشفة عن الزبد الذاهبِ جُفاءً؛ حينها فقط يُعرف العالـِم حقَّ المعرفة: أهو من “علماء الحُسن والإحسان”، أم أنه من “علماء السوء والبهتان”.
الإمام ابن باديس، علامةٌ فارقةٌ، ونقطة تحوُّلٍ، في خطِّ الزمن؛ هو نقطةُ انعطافٍ[3] لا تخفى على المراقب البصير لحركة التاريخ المعاصِر؛ ومن ثم كان “للشريحة الزمنية” التي يقِف عليها، والتي صاغ – هو ومَن معه – بعضًا من معالمها، كان لها الأهمية القُصوى في فهم الماضي، واستيعاب الحاضر، والتخطيط للمستقبل.
سنعمُد في هذا البحث إلى “تراث الإمام ابن باديس”[4]، وإلى ما كُتب عنه من مقالات، وما نقِل عنه من شهادات؛ لننقِّب عن “الآثار” التي تصوِّر الوقت والزمن، والتي تدلُّ على “النماذج الإدراكية الكامنة”[5] لصاحبها، ذلك أنَّ التحوُّل غالبا لا يُكتشف إلاَّ من خلال “الحفر المعرفيِّ”، وتلك مهمَّة نقرُّ ابتداءً بصعوبتها، بل باستحالتها، في مقالٍ واحد، من باحث مفردٍ؛ ولكنَّها الدعوةُ إلى أن نولي الموضوع اهتماما “جمعيًّا جماعيًّا”، مِن مداخل شتى: علم البرمجة الزمنية، فلسفة العلوم، نظرية المعرفة، علوم اللغة، تاريخ العلوم، الدراسات الحضارية، العلوم الزمنية، علم اجتماع العلوم، علوم الإدراك، علم اجتماع الفراغ، مناهج تحليل النصِّ… وغيرها كثير.
عمارة الوقت بين الرشد والسفه:
“الوقت وعاء خلِق ليُعمر، والفراغ هو عدوُّ الإنسان” تلكم هي الصورة الإدراكية للزمن عند الإمام ابن باديس، فليس الزمن عنده “سيفًا”، ولا هو “مِن ذهبٍّ” كما هو معتاد في الأدبيات العربية الكلاسيكية، ولا هو “مالٌ” كما يصوَّر في المثل الانجليزي والغربيِّ بعامَّة؛ ذلك أنَّ الزمن محايِدٌ، والذي يصنع قيمته هو “فعلُ الإنسان“، أمَّا صورة “السيف” فهي صورةُ “عداءٍ وترقُّب وخوفٍ” مِن الزمن، أن يقطعك إذا أنت لم تقطعه.
وأمَّا صورة “المال والذهب” فهي أقربُ ما تكون إلى الرؤية المادية الصِّرفة، وهي صورة دافعة إلى تحصيله وكنزه؛ فضياعه ضياعٌ للمال وللذهب، واكتسابه غنى وثراءٌ، وعلى عتبات هذه الرؤية الكونية يضيع النفَس الإنسانيٌّ، ويتبخَّر البعد الإيمانيُّ، ولا يبقى للعمق الأخلاقيِّ أيُّ معنىً إلاَّ ما تبرِّره الغاية من وسيلةٍ، وما تستدعيه الفلسفة الوضعية من محسوس ومحسوب.
إلاَّ أنَّ صورة “العَمار” هي الصورة المفسِّرة لمفهوم “النعمة” الوارد في الحديث الشريف؛ والنعمةُ في ذاتها لا تكتسب المعنى إلاَّ بإسنادها إلى “المنعِم”، وهو الله سبحانه وتعالى؛ ثم باعتبار طريقة تلقِّيها من “المنعَم عليه” أي الإنسان؛ فإن هو شكر كان أهلاً لها، وإن هو كفر فإنَّ العذاب الشديد من الله تعالى يحيق به: “وإذ تأذَّن ربُّكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد“[6].
في شرح الحديث المروي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ“[7]، يقول الإمام ابن باديس:
“إنَّ عمُرَ الإنسان أنفسُ كنزٍ يملكه، ولحظاتُه محسوبةٌ عليه، وكلُّ لحظة تمرُّ معمورة بعملٍ مفيدٍ فقد أخذ حظَّه منها وربـِحها، وكلُّ لحظة تمرُّ فارغة فقد غبن حظَّه منها وخسِرها… فالرشيد الرشيد مَن أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمَّر وقته بالأعمال، والسفيهُ السفيه مَن أساء التصرُّف فيه، فأخلى وقته من العمل”[8].
وفـــي سيـاق تفسيــــر ابن باديس لقــــول الله تعـــالى: “أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا“[9] يقول:
“في ربط الصلاة بالأوقات[10]، تعليمٌ لنا لنربط أمورنا بالأوقات، ونجعل لكلِّ عمل وقته، وبذلك ينضبط للإنسان أمرُ حياته، وتطَّرد أعمالُه، ويسهُل عليه القيام بالكثير منها. أمَّا إذا ترك أعماله مهمَلة غير مرتبطة بوقت، فإنه لا بدَّ أن يضطرب عليه أمرُه، ويشوِّش باله ولا يأتي إلاَّ بالعمل القليل، ويـُحرم لذَّة العمل، وإذا حُرم لذَّة العمل أصابه الكسل والضجــر، فقلَّ سعيـُـه، وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوشــه، بعيدًا عن أي إتقـان”[11].
هذا النصُّ – في تحليله – يقوم شاهدًا على عمق مناهج “إدارة الوقت والبرمجة الزمنية”[12] عند ابن باديس؛ ذلك أنه يشيرُ بصراحة إلى قانون “لكلِّ عمل وقتُه“[13]، وإلى مدلول “اطراد الأعمال ودوامها“[14]، ويحذِّر من مغبة “الاضطراب والتشوُّش والسبهللة“؛ ثم يربط ذلك “بالزمن النفسيِّ“[15] أي “لذَّة العمل“، و”الضجر“، ثم تأتي النتيجة العملية وهي “الكسل” و”قلَّة السعي” نتيجة طبيعية للمقدِّمات؛ وينتهي بمبتغى العمل وصفته اللصيقة، التي هي “الإتقان“.
ولا يمكن أن نغفل – في بحثنا هذا – ملاحظةً وردت على الإمام الزمخشري، حول قصيدة من نظمه، جاء في مطلعها: وأخَّرني دهري، وقدَّم معشرا على أنهم لا يعلمون، وأعلمُ
قال ابن باديس ناقدا، بأدب جمٍّ، واعتراف بقدر العالم: ما كان ينبغي للزمخشري، على فضله وعلمه، واقتداءِ الناس به، أن يتضجَّر من الدهر، وبهذه الطريقة التي لا تجيزها آداب الإسلام”[16].
ولا ريب أنَّ “صورة الزمن” من خلال أدبيات الإمام، تفسيرا للقرآن الكريم، وشرحا للحديث النبوي الشريف، وبيانا فكريا وأدبيًّا في الخطب والمقالات، تستدعي عملاً ليس مقامُه المقالة، ولا شأنه الاختصارُ؛ ولكن تكفي هذه المقدِّمة، للنظر في الحياة اليومية للشيخ ابن باديس؛ ومدى تمثُّل ذلك في بحر الزمن عنده.
- عمر الإمام قصيرٌ، مباركٌ:
وفِّق الأستاذ محمد الصالح الصديق أيما توفيق، بتمهيده لكتاب “المصلح المجدِّد”، بدرر عنونها: “تمهيدٌ في مقياس حياة الإنسان”[17]، وفيها بيَّن أنَّ “المقياس[18] الأوَّل للحياة هو عددُ السنين التي يعيشها الإنسان”، ووصفه أنه “مقياس سطحيٌّ غير كافٍ، بل هو غير صحيحٍ”.
ثم عرض مقاييس[19] أخرى لا تقلُّ هشاشةً وخواءً، منها “مقياسُ اللذَّة والبسطة والشهرة التي يتمتع بها المرء خلال عمره”، ومقياس “المال والعقار والغنى”؛ ثم دلَّل على أنَّ هذا المقياس كذلك لا يُعتدُّ به.
وينتهي إلى المقياس الوحيد “الذي أجمع عليه ذوو البصائر والألباب عبر العصور، وجرت عليه الأمم والشعوب في كلِّ أطوارها، هو منفعةُ تلك الحياة للمجتمع؛ فأنفع الناس لأوطانهم ومجتمعاتهم وللإنسانية عامة، هم الأحياء حقًّا” ثم ربط الأستاذ المؤلف ذلك “بروح الله تعالى” وبمفهوم “الإنسان الكامل“.
وابن باديس عاش عمرا قصيرا، وهو بالمقاييس الكمية – أي “طول العمر”، و”اللذة والمتعة”، و”المال والغنى” – هو بهذه المقاييس جميعًا، لا فضل له على أحدٍ ولا تميُّز؛ ولكن بالنظر إلى نفعِه لدينه، ولأمَّته، وتفانيه في عبادة ربِّه حقَّ العبادة، يُعدُّ رمزا ومثالا يحتذى، قلَّ له نظير في القرون المتأخِّرة.
وإني كلَّما حاولت أن أقارن بين برنامجي اليومي وبرنامج الإمام استحييتُ من تفريطي، وندِمت على ضياع الوقت من الساقية المتشققة في عمري، وأحسب كلَّ عامل في حقل العلم والدعوة يجد الذي أجده، ويقرُّ بما أقررتُ به.
والبركة في عمر الشيخ ابن باديس، رغم قصره، ورغم كثرة الضغوط عليه، ترشَح رشحا مِن إخلاصه، وصبرِه، وتفانيه؛ وبجملةٍ من المهام التي تولاها، وهي في ذاتها تمثل الفرق بينه وبين غيره، وعلى رأس تلك المهام النبيلة “تعليم الكبار والصغار”؛ ولقد التقى في حلقته مئاتُ الطلاب، من جميع “عمالات” الجزائر، وبكلِّ المستويات.
ولا ننسى حلقة الدرس من “تفسير كلام الله تعالى”، و”شرح حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم”، و”الخطب الملتهبة في المحافل والمجامع والملتقيات”؛ وهي دروس أطالت عمرَ الشيخ، وأمدَّته بأثر لا يزال ينشر عبيره على الأرجاء، معانٍ، ومؤلفات، ومواقف يذكر فتذكر.
وللأسفار المتواصلة خارج الوطن ابتداءً، ثم داخل الوطن بلا انقطاعٍ، كلَّما تحينت له الفرصة؛ أثرُها الطيب على حركة الإمام؛ ويكفي أن نقرأ التقارير التي نشرت في جريدة الشهاب بخاصة، والتي كتبها مرافقه الفضيل الورتلاني[20] أحيانا؛ حتى ندرك مدى أثر السفر على البركة في العمر.
وابن باديس يتَّصف بجملة من الصفات التي ميزته عن غيره، ودفعت به أن يكون الرائد الإمام، وأن يكون له من الأتباع والمريدين ما لا يحصى، وفي وقت قصير؛ ومن هذه الصفات “التفويض”[21] بخاصَّة في التعليم؛ وكذا “روح الجماعة”[22] التي طالما نادى بها، وعملَ تحت رايتها، فأثمرت “جمعيةَ العلماء المسلمين الجزائريين”[23] نموذجًا ومثالا في التغيير، قلَّ له نظير في العالم الإسلامي. ثم صفةُ التخطيط، والدعوة إلى النظر البعيد وصوغ الاستراتيجيات.
ونظرة مقتضبة في البرنامج اليومي للإمام، تفضح المنظِّرين السطحيين، وتدعو إلى إعادة صياغة “البرمجة الزمنية” وفق أسس أكثر عمقا، وأبعد غورا.
[1]– وانظر- محمد باباعمي: صورة الزمن، محمد إقبال وفتح الله كولن نموذجا؛ ضمن كتاب “الزمن والوقت“، دار النيل، تركيا؛ 2013م. ص73 وما بعدها.
Etienne Klein : Le facteur temps ne sonne jamais deux fois. ed Poche – 14 octobre 2009
[2]– وانظر- Edward-T Hall : Le langage silencieux. ed Poche – 1 mars 1984
[3]– نقطة الانعطاف أو الانقلاب (turning point): رياضيًّا هي النقطة الواقعة في منحنًى، يقع عندها التغير في الاتجاه؛ وقد وظفتُ هذا المفهوم حضاريًّا في مقال بعنوان “في نقطة الانعطاف، ابن سينا نموذجا”. veecos.net
[4]– آثار الإمام عبد الحميد بن باديس؛ الطبعة الأولى، وزارة الشؤون الدينية؛ 1406هـ/1985م. وقد اعتنى بها بخاصَّة الأستاذان محمد الصالح الصديق، ومحمد الهادي الحسني.
[5]– النموذج الإدراكي الكامن: هو النموذج المعرفي غير الواعي، أي النموذج الذي يُوجِّه سلوك الناس دون أن يعوا وجوده، فهو يُشكِّل رؤيتهم للكون. وهو مفهوم نحته عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية، المقدمة.
[6]– سورة إبراهيم: 07.
[7]– رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس. ورواه الترمذي وابن ماجه، وغيرهما.
[8]– ابن باديس: مجالس التذكير،ج2 ،ص 138. محمد الصالح الصديق: الشيخ ابن باديس، من آرائه ومواقفه؛ ص87. مصطفى محمد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية كتاب الأمة، رقم 57، وزارة الأوقاف، قطر، 1997.
[9]– سورة الإسراء: 78.
[10]– انظر- محمد إقبال: تجديد الفكر الديني؛ فصل بعنوان “مفهوم الألوهية ومعنى الصلاة“؛ ترجمة يوسق عدس؛ مكتبة الاسكندرية، مصر؛ 2011م؛ ص107 وما بعدها. ويقول علي عزت بيجوفيتش: “ليست الصلاة مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنما هي انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم العالم” الإسلام بين الشرق والغرب؛ ترجمة يوسف عدس؛ مؤسسة بافاريا، ألمانيا؛ 1993. ص293.
[11]– مجالس التذكير: تفسير سورة الإسراء.
[12]– وانظر- محمد باباعمي: أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي، مقارنة بالفكر الغربي؛ دار صفحات، دمشق؛ 2007م.
[13]– باباعمي: أصول البرمجة؛ قاعدة العمل في وقته؛ ص376.
[14]– نفس المرجع؛ قاعدة المداومة؛ ص362.
[15]– حول الزمن النفسي، انظر- محمد باباعمي: مفهوم الزمن في القرآن الكريم؛ دار الغرب الإسلامي، بيروت؛ 2000م. ص281.
[16]– محمد الصالح الصديق: المصلح المجدد، الإمام ابن باديس؛ ص174- ابن باديس من آرائه ومواقفه؛ ص44. وفي الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدّهر وأنا الدّهر أقلّب الليل والنهار“.
[17]– ص12.
[18]– حول مقاييس البرمجة الزمنية، انظر- باباعمي: أصول البرمجة الزمنية؛ فصل الأهداف والغايات في الفكر الغربي؛ ص152 وما بعدها
[19]– يقول مارسل بروست: “إنَّ عليك أن تعيش على هذه الساعات الأربعة والعشرين لوقتك اليوميِّ، من بينها عليك أن تغزل الصحة، والسرور، والمال، والقناعة، والاحترام، والتطور لروحك الخالدة”. الدعيبي حسين: أقلام كتبت عن الوقت والعمل؛ سلاسل سوفينير، دار الراتب الجامعية، بيروت؛ ص9.
[20]– آثار ابن باديس؛ ج4/ص219 وما بعدها.
[21]– Jean-Ange Lallican : L’art de déléguer Manager dans la confiance : collection: Stratégies et management ; ed Dunod 2015
[22]– مشال دوبوا: مدخل إلى علم اجتماع العلوم؛ ترجمة سعود المولى؛ المنظمة العربية للترجمة؛ 2008.
[23]– جمعية العلماء باعتبارها “متَّحَدا علميًّا” هو مدخل منهجيٌّ لم يتلقَّ العناية اللازمة بعدُ، وليس المطلوب اليوم تأليف نصوص وصفية للجمعية، بقدر ما تلحُّ الحاجة إلى دراسات معرفية متخصصة؛ للأسف لم نحظ بها بعدُ في سياقنا الوطني والعربي، ولا حتى من قبل باحثين عالميين.