كتاب: الزمن والوقت في فكر الأستاذ فتح الله كولن

يتشكَّل “الزمن” في منظومة فتح الله كولن تشكُّلا شموليا، متجاوِزا، لا يحدُّه تخصُّص واحدٌ ولا علمٌ واحد، ولا يتوقَّف على ثقافةٍ فريدة ولا حضارة محدودة؛ فهو يقفز من “الأزل” إلى “الأبد”، و ”يتجاوز الزمن” ليرسِم ملاحم “خارج الزمن”، ثم إنه مع ذلك يلامس خطَّ الواقع، ويصنع الحدث والتغيير؛ في سمفونية بديعة، لطالما رسم حروفها بروحه وعقله ومهجته، وأسعد بها الملايين عبر العالم، لا يبغي من أحد جزاءً ولا شكورًا.

فالذي “يتجاوز الزمن”، ويتَّصل بسبب بما “فوق الزمان”، هو الله سبحانه الذي “لا يمكن حصره بزمان أو مكان”، فهو عز وجل خالقهما والقاهر فوقهما، ومُجري “نهر الزمن”، وهو الباسط سبحانه لـ ”سفوح المكان”، بقدرته اللامتناهية، التي لا يحدُّها حدٌّ، ولا يقيِّدها قيد؛ وهو I إذا أراد شيئا أن يقول له •كُنْ، •فَيَكُونُ.. ونتيجة لذلك يكون كلام الله تعالى، (أي القرآنُ الكريم، وما سبقه من كتبٍ منزَّلة على أنبيائه البررة -قبل أن تحرَّف-) تكون كلُّها متجاوزة على كلِّ قيد، ولا يستثنى من ذلك قيد الزمان.

والزمن في فكر فتح الله يتناغم مع جمالية الكون، فيكون أحيانا “شلاَّلا” هادرا، وأحيانا أخرى “فانوسًا”، وأحيانا “كائنًا يهرُم ويشيخ” ويموت، وقبل ذلك يولد ويكبر ويقوى… وقد يتحوَّل إلى نسيج “ينسج الجهلُ عليه خيوطَه” وأوهامَه وأحزانَه. ثم يتحوَّل إلى “سفينة أو طائرة أو آلة نقل من أيِّ شكل كانت” ينطلق، ويتسارع، ويتوقَّف، ويقر في محطته…

أمَّا عن علاقة الناس بالزمن، فهي من الجمال والجلال بمكان، فمنهم من “ينحت الزمن لحسابه”، ومنهم من “ينحته الزمنُ طوال عمره”، وإذا ارتقى هذا الإنسان إلى مقام الصحابة “نظَّم الأزمنة التي يجب التضحية فيها بالمال والنفس تنظيما جيدا”، وقد يُبتلى المرء فيحتاج إلى “الصبر” فيما “يحتاج إلى زمان ووقت”، ولا يستعجل ولا يقلق، لكنه مع ذلك لا يسوِّف ولا ييأس، فمثل هذا “الصبر” هو من “نوع صبر الطائر الحضون”. وقد يكون “الزمن” قيدا، وسببا للمعضلات، فهنا يصف فتحُ الله دواءً وترياقا عنوانه: “التحرُّر من قيود الزمان لحلِّ تلكم المعضلات”.

ومن الناس “من يقطع شريحة الزمن، دون أن يقع في قبضة القبض”، فيسمو سموًّا لا مُتناهيًا، إذ إنَّ الذي يحيا بحياة القلب، لا بالمادة الفانية فقط، ولا بالحسابات القصيرة اليومية لا غير… مثل هذا الإنسان يصير “كيانا فوق الزمان”. ومثل هؤلاء يتَّخذون “الرضا مصعدا، يستقلُّونه نحو هدفهم، بسرعة تفوق الزمان نفسه”، فيحقِّقون هذا الهدف بلا حاجز ماديٍّ، ولا فاصل زمنيٍّ، ولا سببٍ مباشر. فسببُهم ممتدٌّ بسبب إلى ربِّ الأسباب، مباشرة، بلا واسطة.

وليس لنا من فضل -في هذا المقال- إلاَّ أن وصَفْنا سبائك الذهب التي أفرغها فتح الله من فكره النير، وقد استقاها من النبع الصافي “القرآن الكريم”، وأخذ أبجديتها من المعلِّم الأكبر “محمد صلى الله عليه وسلم“، وقبل ذلك وبعده أودعها راضيا مرضيا “قدرَ الله تعالى”، وتمثَّلها من أسمائه العليا وصفاته الحسنى؛ ثم حمل الهمَّ، وتحمَّل المسؤولية، واحترق، وتألم، وبكى… حتى أنزل تلكم المعاني على خطِّ الزمان والمكان، وزيَّن بها جيد العصر والمصر، وسوَّاها عرُوسًا لكلِّ صاحب قلبٍ حيٍّ، فانتشت الدنيا، وامتدَّ أريجها، وأورقت الأفلاك، وعمَّ الربيع كلَّ قفر…

  • العنوان: الزمن والوقت “نصوص ومفاهيم مؤسسة على الرؤية الكونية لفكر الأستاذ فتح الله كولن”
  • المؤلف: د. محمد باباعمي.
  • دار النشر: دار النيل للنشر.
  • الطبعة: الأولى: 2013م.
  • عدد الصفحات: 350.

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

كتاب: علم البرمجة الزمنية

علم البرمجة الزمنية – البرنامج اليومي من خلال القرآن الكريم وحياة النبي الحكيم أدافع في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *