فكَّرت في معضلة الزمن والوقت طويلا، وتلوت كتاب الله تعالى على ضوئها آية آية، بل كلمة كلمة، وحرفا حرفا؛ ثم انتهيت إلى أنَّ الزمن يقع في “الحد الفاصل بين عالمي الغيب والشهادة”: فلا هو غيبٌ مطلقٌ، ولا هو شهادةٌ صرفةٌ”.
الزمن الثقيل والزمن الخفيف:
في عادة وصف الزمن والوقت، في الأدب والفلسفة والعلوم، يقال: زمنٌ سريعٌ أو بطيءٌ؛ ولا تزال “النظرية النسبية” منذ طرحها في الحقل العلمي أوائل القرن العشرين للميلاد، تشوق عاشقيها بمدلول “تسارع الزمن” وتختار لذلك مصطلح “تمدد الزمن” (Time dilation) وثمة معادلات تقيس هذا التمدُّد مقارنا بسرُعة الضوء، الذي هو المرجع في ذلك؛ وكذا يختلف حجمُ الزمن حسب الراصد، “فالزمن يتحرك بشكل أبطأ بالنسبة لمراقبٍ متحرك، وبشكل أسرعَ لدى المراقب الثابت”؛ أمَّا وصف الزمن والوقت بالثقل والخفَّة، فله تمثلات في الزمن النفسي؛ وقد عالجتُ في بحث “مفهوم الزمن في القرآن الكريم” هذا الموضوع باستفاضة، لمن أراد أن يتوسَّع فيه.
والذي يهمُّني – في سياق هذا البحث، أن أشير إليه – هو أنَّ النفس تعي الزمن حسب حالها فرحا وحُزنا، رضًا وسخطًا “ولقد أثبتت أحدث الدراسات الزمنية أنّ الوقت لا يمرُّ عندما نكونُ قلقين، ويمرُّ بسرعة هائلة في ساعات الفرح والسرور والنعيم، وهذا المعنى يعرفه الناس بالمراس والإحساس” وله شواهد كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن سنة الرسول ﷺ، وحتى من الأدب العالمي الذي يلج إلى أغوار النفس.
ولا أجد جديدا في الدراسات النفسية للزمن؛ ذلك أنَّ الشعراء والأدباء منذ القدم، كانوا يصفون الزمن والوقت بأنه طويل أو قصير، وبأنه يمرُّ بسرعة حين نفرح، وببطء حين نحزن؛ بل إنَّ الناس جميعا يدركون ذلك حتى ولو لم يقدروا أن يصفوه أو يشخصوه؛ فنحن نقرأ شعر امرئ القيس، ومن جماليته قوله:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ***عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فَقُلْتُ لَهُ لــما تَمَطّى بجوزه***وأردف أعجازا ونــــــــــــاء بكلكل
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي***بصُبْحٍ وما الإصْباحُ فيك بأمثَلِ
فيا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجـــــــومهُ***بكـــــــلّ مغار الفتل شُدَّت بيَذبُل
أما في محكم التنزيل، فيثيرنا وصف الله تعالى للزمن بالثقل، يقول تعالى: “إنَّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا” (سورة الإنسان: 27)؛ ووصف جلَّ شأنه الساعة أنها ثقيلة، والساعة هي الوقت وهي القيامة، فقال: “يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلاَّ هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلاَّ بغتة” (سورة الأعراف: 187)
وفي شرح هذا المعنى روى الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قيل لرسول الله ﷺ: “يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطولَ هذا اليوم!” فقال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا”. فنلاحظ إذن أنَّه وصف الزمن بالخفَّة؛ وبالتالي يكتمل وصف الزمن بالخفة والثقل في القاموس القرآني.
وسؤالنا العلمي هو: هل الثقل والخفَّة بالنسبة للوقت، سببه ماديٌّ، أم أنَّ سببه غير ماديٍّ؟
فالذين ينظرون إلى السبب الماديّ، يحيلونه إلى الجانب الفيزيولوجي العصبيّ “ذلك أنَّ القلق يُفرز معاملا كيميائيًّا في المخ، فيحدُث خللٌ في الجسم فيفقد توازنه واعتداله؛ ويشعر بالتالي بثقل الوقت” (مفهوم الزمن).
غير أنَّ الجانب غير المادي له قدرة تفسيرية عالية لظاهرة خفَّة الوقت وثقله، ولذا لا يمكن أن يُلغى أو يحيَّد، شأن العلوم المادية الصرفة؛ فهو الأصل والماديُّ تابعٌ؛ بل إنَّ حديث رسول الله ﷺ ينبّهنا إلى أنَّ الناس مختلفون في الإحساس بالثقل والخفَّة في يوم الحساب؛ وهذا دليلٌ على أنَّ الموضوع على الأقل في هذا المستوى الغيبي ليس ماديًّا؛ وإنما هو روحيٌّ غيبي أساسا؛ أي إنه من الله سبحانه وتعالى “إنه ليخفَّف على المؤمن…” الحديث.
ولا ريب أنَّ البحث في هذه المسألة يستغرق فصولا، ولعلَّ الله تعالى يجود علينا بوقت خفيف ننجز فيه هذا العمل الجليل.
هل “الزمن” من عالم الغيب؟ أم هو من عالم الشهادة؟
الوجودُ بالمنظور القرآني ينقسم إلى عالمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة؛ ولا يوجد عالمٌ ثالث بينهما؛ والله سبحانه وتعالى لا يكتمل الإيمان به إلاَّ بما وصف به نفسه فقال: “عالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال” (سورة الرعد: 9)؛ ولا ريب أنَّ الله سبحانه وتعالى محيطٌ بعلمه كلَّ شيء “لتعلموا أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّ الله قَد أحاط بكل شيء علما” (سورة الطلاق: 12).
فالجواهر والأعراض، والذوات والأعيان، والماديات وغير الماديات، والمحسوسات وغير المحسوسات، والمعلومات وغير المعلومات… كلُّها خلقٌ من خلقِ الله ﷻ “ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كلِّ شيء” (سورة الأنعام: 102).
وتصنيف الجماد والنبات والحيوان ضمن عالم الشهادة تصنيف ظاهرٌ بدهيٌّ؛ ومع ذلك لا يقدر الإنسان أن يدَّعي أنه أحاط بها علمًا؛ فما يُعلم منها قليل بالنسبة إلى ما يجهل عنها؛ ولا أدلَّ على ذلك من الكون في سعته وتوسُّعه (حوالي 14 مليار سنة ضوئية)؛ لا يَعرف منه الإنسان إلاَّ النزر اليسير؛ ذلك أنَّ أقرب الأكوان إليه، بل أرضَه التي يقف عليها؛ لا يعرف منها إلاَّ نسبةً قليلة جدا؛ ومن باب أولى أنه جاهل بمليارات المجرات التي تكوّن هذا الكون الشاسع؛ سبحانه وهو القائل: “وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا” (سورة الإسراء: 45).
أمَّا الإنسان، فمخلوقٌ بديع، هو نفسه الدارس وهو المدروس؛ ففي مجال الوجود هو المدروس، وفي مجال المعرفة هو الدارس؛ وهذه المعضلة نفسُها لا تزال تحير العلماءَ، إذ كيف لمخ إنسان مثلا أن يدرس نفسَه؛ وكيف للعين أن تبصر العينَ؟
ولذا كان الإنسان مختلفا عن سائر المخلوقات؛ ويكفي أنه يصنف مع آيات الله تعالى في قوله: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد” (سورة فصلت: 53).
ويأتي الزمن – في سلسلة العوالم – ليحيّر الإنسان وهو ينظر فيه ويدرسُه:
أهو من عالم الشهادة؟ أم هو من عالم الغيب؟
هل هو قابلٌ للتعريف؟ أم هو متفلّت عن كلّ تعريفٍ؟
هل هو قابلٌ للإدراك والإحساس والوعي؟ أم أنه غير قابل للتحيُّز الذي يجعله ممكن التعريف، وبالتالي يمكن دراسته؟
بل الاختلاف طال وجودَ الزمن نفسَه: هل الزمن حقيقةٌ قائمة بذاتها، ومن ثم فهو موجودٌ؟ أم أنَّ الزمن مجرَّدُ وهم، لا وجود له في العالم الخارجي؟
ينسب مثلا إلى “كارلو روفيلي”، وهو عالم فزياء وليس فيلسوفا، قوله: “إنَّ الزمن لا يتدفَّق، ولا وجود له من الأصل، بل هو مجرَّد وهمٍ”؛ غير أنه يستدرك ويقول: “وحتى لو كان الزمن غير موجود، فإنَّ إحساسنا بالزمن حقيقيٌّ”.
ولقد فكَّرت في هذه المعضلة طويلاً، وتلوت كتاب الله تعالى على ضوئها آيةً آيةً، بل كلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا؛ ثم انتهيت إلى أنَّ الزمن يقع في “الحدّ الفاصل بين عالـَمي الغيب والشهادة: فلا هو غيبٌ مطلقٌ، ولا هو شهادةٌ صِرفة“.
ففي الحديث القدسي البديع، يقول الله تعالى: “لا تسبُّوا الدهر، فإنَّ الله هو الدهر، يُقلِّب ليلَه ونهارَه” (رواه البخاري)، وفي رواية أخرى: “يؤذيني ابنُ آدم، يسبُّ الدهر، وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ، أقلّب الليل والنهار” (رواه الطبراني في الأوسط)؛ وحين ننقّب في المصادر عن معنى الحديث، نلاحظ أنَّ المدرسة اللفظية تستعجل في توجيهه وتفسيره، فيقول قائلهم، معنى الحديث أنَّ “الدهر ليس عنده تصرُّفٌ، والمتصرف في الدهر هو الله وحدَه”.
ونحن لا نلغي هذا المعنى، الذي يتوخى تنزيه الله تعالى من كل تشبيه وتجسيدٍ، ومن كل شريك ومثيلٍ؛ بل إنَّ ديدننا في التوحيد أن نحيل المتشابه إلى المحكم، وأن نرجع كلَّ آية فيها وصفٌ لله تعالى قد يفهَم منه التشبيه إلى قوله سبحانه: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” (سورة الشورى: 11)؛ غير أنَّنا نقف حائرين أمام عبارة “فإنَّ الله هو الدهرُ“، و”أنا الدهرُ“؛ ومعلوم لغة أنَّ “الدهر هو الزمانُ الطويلُ، وهو الزمن قلَّ أو كثُر، وهو العمُرُ؛ وقد حدَّده البعض بمدَّة الحياة الدنيا، وبعضهم بألف عامٍ”.
ولا ريب أنَّ الله تعالى نهى المسلم أن يسبَّ خلقه سبحانه؛ ففي رواية من “بحر الأنوار” للمجلسي، روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: “لا تسبوا الرياح فإنها مأمورة، ولا تسبوا الجبال ولا الساعات ولا الأيام ولا الليالي فتأثموا وترجع عليكم“؛ ثم إنَّ رسول الله ﷺ قال: “ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء” (رواه الترمذي). ولا يجوز له شرعا أن يلعن مخلوقا من مخلوقات الله، مثل أن يلعن الريح، أو الصباح، أو الجبل الفلاني… الخ.
غير أنه لم يرد في مصدر صحيح، من آية قرآنية، أو حديث شريف، أنَّ الله تعالى قال: “أنا كذا…“، أو “الله كذا…” مثلما قال: “أنا الدهر“، و”إنَّ الله هو الدهر“. ولقد اطَّلعت على التأويلات الكثيرة الواردة في هذا الحديث المشكل؛ والحاصل أنه لا بدَّ من “التأويل”، ومن ينكر التأويلَ يقعُ في حرج شديدٍ؛ ولذا أجاز بعضهم أن يكون “الدهر من أسماء الله الحسنى”؛ فردَّ عليهم آخرون.
ونحنُ نستفيد من الحديث ما ورد من معانٍ تفيد تقديس الذات العليَّة، وتنزيه الله تعالى؛ ثم نضيف – حسب سياق بحثنا هذا – أنَّ الحديث يفيدُ كون الله تعالى أنزل “الدهر” أو “الزمن” منزلةً عظيمةً، وكأنه يبيّن لنا أنَّ الزمن له مقامٌ خاصٌّ، ومكانة مرتفعةٌ في سلَّم المخلوقات؛ أو ما يسميه بعض الفزيائيين “الأبعاد”؛ حتى إنهم عدُّوا في الكون “أحد عشر بُعدا” (11)؛ وإني أرى أنَّ الزمن لا يُدرك بالعقل، ولا بالحواس، ولا بأي آلة أخرى؛ غير أنَّ ما يُحَسُّ بالحواس، ويدرك بالعقل، ويمكن وعيه بالفؤاد، هو “أثر الزمن على المخلوقات كلِّها بلا استثناء”؛ ذلك أنَّ جميع ما خلق الله تعالى يجري عليه سلطان الزمن إلاَّ ما شاء الله تعالى، وهو فوق الاعتبارات الإدراكية البشرية؛ ومثال ذلك “فتية الكهف”، و”صاحب القرية”.
ثم إنَّ الزمن لا يبلى، وهو يبلي جميع المخلوقات؛ ولا يشيخُ ولا يفنى، ولا يـملَّك ولا يتحيز، ولا يباع ولا يشترى، ولا يُسمع ولا يُرى ولا يلمس، ولا يتفَّكر فيه… وغير ذلك من الأوصاف التي تعلي من شأنه في “سلَّم المخلوقات”؛ ولذا ظنَّ الناس أنَّ الدهر له إرادةٌ؛ فوُجدت الدهرية التي قال الله تعالى عنها: “وقالوا ما هي إلاَّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلاَّ الدهر، وما لهم بذلك من علم، إن هم إلاَّ يظنون” (سورة الجاثية: 24).
فالنتيجة التي نخرج بها هي أنَّ الزمن يقعُ في الحد الفاصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة؛ ومن ثَم يستطيع العلم أن يدرك بعض أثره الذي هو من عالم الشهادة؛ لكنه يعجز عن إدراك كنهه، وكثيرٍ من آثاره، مما هو من عالم الغيب؛ ومن ثَم يصبح موضوع الزمن والوقت مقسَّما بين العلم والإيمان؛ فنحن نؤمن باليوم الآخر ولا نعلمه، ونؤمن بوجود المستقبل ولا نعلم ما يكون فيه؛ ونعلم حدَّ النهار وحدَّ الليل، ولا نقول: نؤمن بهما؛ وكذا ما كان محسوسا ومحسوبا من مثل حركة الشمس والقمر، وامتداد الظل، وسرعة الضوء… وغيرها؛ كلُّ ذلك يقع في دائرة العلوم، لا في دائرة الإيمان.
والثمرة العملية هي أنَّ موضوع “الزمن والوقت” اليومَ يعاني من مفارقةٍ خطيرةٍ، وهي أنَّ من يشتغل به علميًّا يتنكَّر لكلّ منظومة إيمانيةٍ؛ وأنَّ من يهتمُّ به إيمانيًّا بعيدٌ كلَّ البعد عن منظومة العلم؛ ولم يكن الشأن كذلك يومَ كان الأمر والحكم، والعلم والإيمان، بيد علماء فطاحل من مثل ابن سينا، والفارابي، والواراجلاني، والصوفي، وابن يونس، والزرقاني، والطوسي… وغيرهم كثير.
د. محمد بن موسى باباعمي
مكتبة مسجد محمد الأمين، مسقط، عُمان
الأحد 26 شوال 1445ه/5 ماي 2024م