في وعي الإنسان بالوقت :: 01

إنَّ وعي الإنسان بالزمن وبالوقت ممَّا تعلَّمه
من الله تعالى، وهو فطريٌّ فيه وضروريٌّ؛ وحتی
لو كان كسبيًّا فإنه من تعليم الله تعالى إياه،
وليس ذاتيًّا منفصلا عن “خلق الله” عز وجل

عن الخيار الكوني، وعن المفهوم والمنهج:


في مقال بهذا العنوان المركب، لا بد أن يكون “للألفاظ” دلالات مفصليَّة، هي التي تحدد مدى قدرة الكاتب على التعبير عما يريد أن يعبّر عنه، وهي التي تحدد للقارئ مدى فهمه لما قصده الكاتب فيما كتب؛ ولذا فإنَّ اختيار ألفاظ من مثل: “الإحساس”، أو “الإدراك”، أو “الوعي”… الخ؛ وكذا الوقت”، أو “الزمن”، أو “الصيرورة ” … الخ ؛ كل اختيار له مبرره المعرفي، وله إطاره المنهجي، وله مرجعيته النظرية، وله قبل ذلك أبعاده الكونية، ومنطلقاته المنهجية.
ومقالي هذا ينطلق من نموذج الرشد، ويُفصح عن خياراته الكونية التي تعتبر الوحي هو المصدر الأول للبحث في الوقت وأبعاده؛ والرشد لا يستبعد البحوث التجريبية، وما انتهت إليه العلوم الحديثة من تطور في مجالات “الإدراك”، و”الفسيولوجية”، و “علوم الأعصاب”، و “علم الساعة البيولوجية” … وغيرها؛ وهو يستوعب ما ورد في نظريات المعرفة” من مدارس عقلية، وحسية، وفطرية”… وغيرها .
ولا ريب أن الوقت باعتباره التمثل العملي للزمن، وأنَّ الزمن باعتباره الوجه النظري للوقت هما شيء واحد، وهما مختلفان في آن واحد ونقول : إنهما من زمرة مفاهيمية واحدة، ولكنهما يختلفان في التفاصيل والتطبيقات بل في المؤدى الإدراكي والمنطلقات أحيانا؛ ومن ثم اخترنا “الوقت” لمقالنا هذا، ذلك أننا نعالج الجانب العملي، من خلال الوعي، والإدراك، والإحساس.

من أين يدرك الإنسان الوقت؟

لا يعرف الباحث غير المتخصص أنَّ لهذه المعضلة علوما خاصة تعالجها، وهي تنطلق غالبا من الفسيولوجية (علم وظائف الأعضاء)، وكذا من “علوم الأعصاب”؛ والسؤال الدقيق الذي يطرح هو :
من أين يدرك الإنسان (أو يعي، أو يحس…) مرور الوقت؟

فإذا كان اللسان – مثلا – مسؤولا عن إدراك الطعوم والمذاقات والتمييز بين الحموضة والحلاوة … وإذا كان المخ يميز بين المعلومات، ويقيس ما يرد إليه من أفكار … فما هو العضو الذي يقدر مرور الوقت؟
أهي الخلايا ؟ أم هو المخ ؟ أم هي الأعضاء؟ وأي عضو نقصد؟
أم هي حاسة أخرى، غير الحواس المعروفة؟ وفوق ما يسمى الحاسة السادسة؟

ويذكر من العلماء في مجال البحث عن إدراك الزمن في السياق الغربي أسماء مثل : كارل إرنست فون باير وهو يؤسس بحوثه على علم النفس – الفيزيائي؛ وجوستاف فخنر، وهو ينطلق في العلاقة بين الزمن المحسوس والزمن الحقيقي (إن وجد طبعا) وويليام فرايدمان صاحب نظرية حاسة الزمن وغاستون باشلار، الذي خلف كتابه “جدلية الزمن” وعالج فيه الإحساس بالزمن والصيرورة… الخ.

وللبلاغة حضور في الموضوع

ذلك أن المعاني المجردة غالبًا ما تحتاج بالضرورة إلى “الصور الإدراكية”، وإلى “التمثلات الذهنية”، حتى يتم التعبير عنها؛ أما التعبير الحقيقي المباشر فيبدو قاصرا وعاجزا؛ ومن عجب أنَّ العلوم الدقيقة نفسها، من مثل “علم الفيزياء”، حين تعالج الزمن والوقت غالبا ما تستنجد بالصور الإدراكية، وبالمجاز؛ ومثال ذلك أن يقول الفيزيائي: “الزمن نهر”، ثم يقول : “إنَّك لا تسبح في النهر مرتين” وهو يريد بذلك أن الزمن خطي، وإذا مر لا يعود أبدا، وأنه عادل في توزيعه على الناس… الخ. وحين سئل ألبرت أينشتاين عن الزمن النسبي لم يجد أكثر من صورة إدراكية ليفهم بها ما يختلج في فؤاده، وما يدور في عقله، فقال: “عندما يجلس رجل بجانب امرأة جميلة (ولتكن زوجته لرفع الحرج) لمدة ساعة تبدو له كأنها دقيقة؛ وعندما يجلس فوق موقد ساخن لمدة دقيقة تبدو له كأنها ساعة؛ هذه هي النسبية”.

الوعي أولا، والوعي آخرا:

والآن نعود إلى اختيارنا لمصطلح “الوعي” على حساب مصطلح “الإدراك” أو “الإحساس” ذلك أن الديانات كلها تحيل في تأريخها للإنسان الأول إلى “ظاهرة الوعي”، وتربط الإنسان لا بالمادة فقط، ولكن بالمعنى، وبالتالي بالعقل وبالروح الذي يفترض الوعي بالضرورة، ففي القرآن الكريم مثلا نقرأ قوله تعالى: “فتلقى آدم من ربه كلمات فأتمهنَّ”، “وعلم آدم الأسماء كلها “… أما مصطلح “الإحساس” فهو غالبا ما يرتبط بالنظرية الحسية، و”الإدراك” يتعلق بالنظرية العقلية.

والفلسفة الإسلامية تعتبر الوجود قرينا بالمعرفة، يقول سيد حسين نصر في بحثه بعنوان “في البدء كان الوعي”: “ويعتبر الفلاسفة الإسلاميون أنَّ الوجود لا ينفصل عن المعرفة وبالتالي عن الوعي، ويعتبرون مستويات الوجود الكونية هي أيضًا مستويات المعرفة والوعي”؛ ولا توجد لحظة سابقة على أخرى، ولا أسبقية للوجود على المعرفة، ولا للمعرفة على الوعي؛ فالإنسان حين خلق خلق ومعه الوعي، وحين يفنى يفنى معه الوعي؛ وإذا مات الوعي في الإنسان استحال أن يسمى إنسانًا، بل هو نوع من الحيوانات العجماوات، أو هو إلى الجماد أقرب: “إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل”.

عود على بدء، كيف وعى أبونا آدم علیه السلام مرور الزمن ؟

هل ثمة في الجنة ليل ونهار ؟ وهل يدرك الإنسان وهو في الجنة مرور الزمن بعلاقته بالشمس والقمر، وبالليل والنهار، وبالظلمة والنور ؟ كما يُنسب غالبا إلى الإنسان الأول في الدراسات الأنتروبولوجية؟
إذا كانت الجنة التي هبط منها أبونا آدم عليه السلام هي نفس الجنة التي يعود إليها أبناؤه وذريته المتقون بعد الحساب -وهو أمر مختلف فيه- فإنَّ كتاب الله تعالى يقول لنا: “ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا”؛ وجملة المفسرين -منهم الطبري والرازي والقطب- اختاروا أن المراد دوامُ الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا، تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، ولقد أحال الرازي إلى حديث للرسول ﷺ جاء فيه: “لا صباح عند ربك ولا مساء”؛ ثم قال: “والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء. والجواب المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي” وهو بعد ذلك يتعقب رأيه برأي مغاير، ويقترح دلالة أخرى، وهي كما قال : “ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي”.

ولقد أورد الشنقيطي في أضواء البيان حديثا نسبه إلى الترمذي الحكيم في “نوادر الأصول” جاء فيه صراحة عن رسول الله ﷺ أنه “جاءه رجل فقال : يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: وما يهيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر : “ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا” فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله ﷺ: “ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح، والرواح على الغدو ، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة عليهم السلام”.

ومن هذا الحديث نفهم أن إدراك من في الجنة للوقت لا يكون بعلاقتهم بالشمس وبالقمر، ولا بالنور والظلمة؛ ولكن “الصلوات” التي كانوا يصلونها في الدنيا، هي التي تضع لهم نقطة “المرجع”، و”المعلم” الذي به يؤسسون وعيهم لمرور الوقت؛ فالمسألة إذن أعمق من مجرد الإحساس بالجوع والعطش، أو بالنهار والليل؛ ولا ريب أن كل ذلك من وسائل إدراك الوقت والإحساس به؛ ولا خلاف في هذا الشأن؛ وإنما الجديد والمعلن على لسان رسول الله ﷺ أنَّ “الوعي” بالوقت وبـ”مروره” رهين بالصلاة التي يصليها المؤمن؛ ولعل ذلك يفسر قوله تعالى: “إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا“، أي إضافةً إلى كونها “كتابا موقوتا” في الدنيا، فإنها كذلك “كتاب موقوت” للمسلم في الآخرة.

و علم آدم الأسماء كلها:

ثم إن آدم عليه السلام، علمه الله سبحانه “الأسماء كلها“، وعلى اعتبار الاختلاف في مدلول “الأسماء كلها“؛ لا خلاف أنه مما علمه تعالى لآدم عليه السلام أسماء “الزمن والوقت”، و”الليل والنهار”، و”الفترة والمدة والحين” …. الخ. وهو بذلك اكتسب إدراك “أسماء المسميات”، أو “مسميات الأسماء”، أو “الملكة التي بها يلحق الاسم بالمسمى “… كل ذلك إنما تعلمه من الله تعالى”؛ وبالتالي فوعي الإنسان بالزمن وبالوقت مما تعلمه من الله تعالى، وهو فطري فيه وضروري؛ وحتى لو كان كسبيا فإنه من تعليم الله تعالى إياه، وليس ذاتيا منفصلا عن “خلق الله” .

والعلوم حين تنفصل عن الوحي، تحيل كل شيء إلى المادة الصماء؛ وتتنكر للخالق المعلم، ولصفاته سبحانه بأنه الحكيم العليم، العزيز الكريم … وبالتالي تقترح أن تكون الذرات الأولى في الكون هي التي “أوجدت الحياة”، أو تحيل الفضل في إيجاد الحياة إلى “الطحالب”، أو حتى إلى “الموجات”، أو إلى تموجات “الزمان – المكان”، أو إلى “الأوتار” و “الأوتار الفائقة” … الخ.

د. محمد بن موسى بابا عمي
مكتبة مسجد محمد الأمين، مسقط، عمان
الثلاثاء 21 شوال 1445هـ / 30 أفريل 2024م

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *