منذُ أن بدأت البحث في موضوع “الزمن والوقت”، و”النوم والأرق” بالتبع؛ قبل ما ينيف عن ثلاثين عامًا؛ وأنا أقرأ ما يكتب عن “عدد ساعات النوم” المعيارية؛ ولقد اعتادت البحوث الكمية أن تضع لكل حركة زمنية معيارا كميًّا محدَّدا، من مثل: عدد ساعات العمل، وعدد ساعات الراحة، ووقت الرياضة المنصوح به، والوقت الأفضل للطعام…
غير أني لم أنته إلى رأيٍ راجحٍ، ولعلَّ أحسن ما وصلتُ إليه أنَّ طبائع الناس تختلفُ، وكذا جانبُهم الصحي، والنفسي، والاجتماعي، بل والبيئة الجغرافية؛ والإنسان نفسُه يمرُّ بمراحل يحتاج فيها إلى نوم كثير ومراحل أخرى يكفيه فيها النوم القليل؛ ومن الآراء من يربط هذا المقدار بالساعة البيولوجية الداخلية للإنسان؛ وبالتالي فعدد ساعات النوم نسبيٌّ، بيد أنَّ له حدًّا أدنى وحدًّا أقصى؛ فالأدنى هو أربع ساعات، أمَّا الأقصى فتسع ساعات.
ومن التوجيهات الوجيهة المؤسَّسة على التجارب وعلى البحث العلمي، أنَّ “وقت النوم” هو الأهمُّ، وليس “حجم النوم”؛ وكذا ما يحوم حول النوم من حالاتٍ نفسية، ومستوى الراحة، والهدوء والضجيج، والبرودة والحرارة، والانتظام وعدم الانتظام، ونوع الطعام ووقت تناوله…
فالنوم مثلا ما بين العشاء والسحَر (الثانية ليلا) هو النوم الأمثل؛ أمَّا السهر إلى ما بعد منتصف الليل ثم النوم إلى ما بعد شروق الشمس، فهو غيرُ صحيٍّ، وله تبعات وآثار سلبية على الإنسان.
يقول “هال إلرود” في كتابه “معجزة الصباح”: من خلال التجربة “اكتشفتُ أنَّ تأثير النوم على فيزيولوجيتنا مشروط إلى حد كبير باعتقادنا الشخصي عن عدد الساعات التي نحتاجها” فمن اعتقد أنَّه في حاجة إلى ثماني ساعات لن تكفيه الستة والسبعة؛ ومن اعتقد أنَّه في حاجة إلى أربع، قام من فراشه بعد أربع ساعات في نشاط وحيوية. أي أنَّ النوم رهين بالحالات النفسية، والتصورات العقلية، والاستعدادات الفيزيولوجية.
ولقد عالج القرآن الكريم في سورة المزمل هذه المسألة بوضوحٍ، فبين أنَّ المراوحة بين النوم والقيام ليلا للذكر، لا يخضع لرقمٍ وعددٍ وحجمٍ معيَّن، بل يتبع الظروف، ويستجيب للاستعدادات؛ قال تعالى: “يا أيها المزمل قم الليل، إلاَّ قليلا، نصفَه أو انقُص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا”.
وفي “تفسير سورة المزمّل” ضمن سلسلة “بذور الرشد” ورد توجيه للآية الكريمة جاء فيه: “هو تخييرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قيامُه لليل متراوحا بين النصف، أو أقلَّ من النصف بقليل، أو أزيد على النصف كذلك؛ وفي ذلك مراعاة للظروف، ولإقبال النفس وإدبارها”.
ولا ريب أنَّ طريقة الاستيقاظ، والمرحلة التي تستيقظ فيها، لها أثر معتبر على إحساسك بالشبع أو العكس؛ ولذا فإن أحسن طرق الاستيقاظ هي تلك التي تكون ذاتية، لا تعتمد على منبه أو آلة؛ وغالبا تكون هذه بالتمرن والمراس.
وهمَّة المرء هي ملاك الأمر، وهي نقطة الارتكاز في العلاقة بالخالق وبالخلق، بالزمان وبالمكان، بالجسد وبالعقل، بالنفس وبالروح، بالنوم وباليقظة… يقول ابن عربي موصيا أحد تلاميذه: “ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تأكل إلا عن حاجة”.
والقاعدة التي انتهيت إليها: “لا تسأل عن عدد الساعات التي تنامها؛ لكن اسأل عن الوقت الذي تنام فيه، وعن الحالة النفسية والإيمانية والظروف التي تكون فيها حين تنام، وعن طريقة استيقاظك من النوم”.
د. محمد باباعمي
———————————————
ضمن كتاب طور التأليف عن “الفجر والبكور” بين منطلقات الوحي، وإكراهات الواقع، وضريبة التبعية والولع.