هل يحق لعالم من الشرق أن يعلن عن ميلاد علم جديد؟
وحين يتجرأ، ثم يعلن أنه أسس علما جديدا، كيف يتصرف؟ أين يتوجه؟
ما الضمانة أنه سيُنصف في الدوائر العلمية المحلية، ثم العالمية؟
أغلب ما قرأت من بحوث ودراسات حول الزمن والوقت، تحيل إلى “اليونان” باعتبارهم المؤسسين للعلوم الزمنية؛ ثم تقفز رأسا إلى النهضة الأوروبية، ويستوي في ذلك ما ألفه الغربيون وما ألفه أغلب الشرقيين. نمثل لهذا بكتاب واحد من بين المئات وهو كتاب “الزمان في الفلسفة والعلم” ليمنى الخولي، وهي تقول:
“قال العالم الرياضي الكبير والفيلسوف البارز ألفرد نورث هوايتهد قولا شهيرا مؤداه أنَّ مجمل تاريخ الفلسفة لا يعدو أن يكون هوامش على فلسفة أفلاطون. وقد ظلت إشكالية الزمان في الفكر الشرقي القديم … ظلت موضوعا لرؤى مبتسرة وشذرات متناثرة، حتى جاء أفلاطون العظيم في المحاورة التي َّكرسها للعالم الطبيعي وتفسير نشأته ليفرق بين الزمان والأبدية”.
ولقد سجَّل أدلَّة هذا الاغتيال جملةٌ من الكتَّاب، من الشرق ومن الغرب، منهم: إدوارد سعيد في “الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق”، سيد حسين نصر في “الإسلام ووعثاء الإنسان الغربي”، وهاملتن مورجان في كتاب “تاريخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه”.
ولقد اقترح بعض العلماء المسلمين المعاصرين علوما()، بين ثنايا كتبهم، ونبهوا إليها؛ لكنَّ أغلبها لم يجد الصدى، ولم يكتب له الأثر المرجو، ولا التفاعل الحقيق؛ من ذلك مالك بن نبي، في “وجهة العالم الإسلامي”، حيث صاغ التصور لـ”علم تجديد الصلة بالله”، فقال: “وتـغـيـيـر النـفس مـعـناه إقـدارهـا علـى أن تـتـجـاوز وضـعـها المألـوف، وليـس هـذا مـن شـأن (عـلم الكـلام)، بـل هـو مـن شـأن منهـاج (التصـوف)، أو بـعـبارة أدق، هـو مـن شـأن عـلم لـم يـوضـع لـه (اسـمٌ) بـعـد، و يمـكـن أن نسمـيـه (تجـديـد الصـلة بالله)”.
وحسن حنفي، بعد رحلة طويلة مع الفلسفات الغربية والشرقية، انتهى إلى صياغة مشروع علم جديد، وأعلنه من عنوان كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” (في أكثر من 800 صفحة)، وقد ذكر أنه ثمرة أربعة عقود من البحث والتأليف؛ وقال: “مهمة علم الاستغراب القضاء على الإحساس بالنقص أمام الغرب، لغةً وثقافةً وعلمًا، مذاهب ونظريات وآراء”، ثم أقرَّ أنَّ هذا العلم كي يكتمل فإنه “قد يحتاج إلى عدة أجيال”، ولكن المهم أن نبدأ، ونتحرَّر.
وأعجبني حين ذكر أنَّ “هموم قصر العمر” هي التي تهدد المشروع، فقال: “العيب الأكبر في هذه المقدمة في علم الاستغراب هي هموم قصر العمر، فالوقت يمر، والعمر يقصر، والأجل قادم”.
لكن الذي استطاع بحق أن يتجاوز عقدة الشرق، ذلك أنَّه أنجز ما يحتاج إلى قرون من الزمان حتى يُستوعب؛ إنما هو فؤاد سوزكين (توفي 1439ه/2018م)؛ وهو المثال والنموذج لنا؛ ولقد تجاوز في موسوعته ما أنجزه كارل بروكلمان بأشواط؛ رغم أنَّ أغلب الجامعات الشرقية لا تزال تحيل إلى بروكلمان، وتجهل أو تتجاهل سوزكين.
ولقد اشتغل سوزكين أكثر من خمسين عاما، بوسائل وإمكانات تفوق وسائل وزارات ودول (مثلا، كانت له طائرة خاصة، يتنقل بها بحثا عن مخطوط أو تحقيقا لمعلومة)، إضافة إلى ملكاته العلمية (أكثر من عشرين لغة)، وعمله الدؤوب (سبع عشرة ساعة يوميًّا، إلى السنوات الأخيرة من عمره)، وبيئته التي اشتغل فيها (ألمانيا، جامعة فرانكفورت)…
ولهذا انتهى بإرساء أسس علم “تاريخ العلوم” لكن، بمنهج جديد، ورؤية جديدة، وأفق جديد.
كما انتهى إلى إنشاء متحف للآلات والاختراعات في التراث الإسلامي، تتجاوز ألف اختراعٍ، ليس على صورة مجسَّمات، لكن على شكلها الأول، أي أنها تعمل كما كانت حين اخترعت…
وانتهى إلى أكثر من ألفي (2000) مجلد، ما بين تحقيق وتأليف، مستعينا بالعشرات من الباحثين والعلماء عبر العالم.
ومما ورد في كتاب عرفان يلماز بعنوان: “مكتشف الكنز المفقود” قول البروفيسور فؤاد: “لم يكن أحد يعلم مكانة المسلمين في دنيا العلوم، وكل ما كان معروفا عن إنجازاتهم هو بضعة أسطرلابات وأخشاب الرُّبُع، وكان العالم الغربي يخفي هذه الحقائق وهو يعلمها، بينما المسلمون يجهلونها، ولقد كرَّرت دائما أنَّ العالم الإسلامي ليس كما يظنه الكثيرون، وإنني لأعتقد أنَّ الإسلام يهتمُّ بالعلم أيما اهتمام…ولم أكن أقبل اتهام ديننا الإسلامي بأنه سبب التخلف الذي صار عليه المسلمون الآن”.