الغرب وشرعية القول

منذ سنوات وأنا أتساءل: 

من ذا الذي يلد من رحمه علومًا ونظرياتٍ، ومفاهيم ومصطلحاتٍ، في عصرنا هذا؟ 

هل منطق نسبة ما ينتج في المعرفة هو منطق خلايا النحل، حيث الملكة وحدها تضع البيض، وينتج عن هذه الولادة جميع أفراد الخلية، أمَّا ما سواها فما هو إلاَّ من جنس الشغالات؟ 

والغرب في هذه الصورة هو الملكة، أما الشعوب الأخرى/الأدنى؛ فهي أقل من أن تلد، وتسمي.

بل، حتى لو سمح لأحد من الشرق أن يؤسس علما جديدا؛ فإنَّ آلات المعايير والقياس العالمية، تسارع إلى نسبة الشرقي إلى الغرب، حتى يكون له الحق في نسبة العلم إليه؛

أو تدرج اسمه ضمن فريق للبحث فيضيع بين ثناياه؛ 

أو تنفي عنه هذا الادعاء؛

 أو تتجاهله حتى لا يصير له ذكر في المصادر، إلى أن يتم انتحال ما ادعى، فينسب إلى غيره… 

وثمة طرق أشدُّ ظلما وخبثا؛ لا يعرفها إلاَّ من قرأ “فتنة الجزائر في التسعينيات”، أو بالخصوص “اجتياح العراق وسورية” ومآل علماء تلك البلاد: إمَّا الغرب أو القبر؟

أعرض ثلاثة أمثلة، من بين العشرات من الأمثلة في هذا الشأن:

الأوَّل– طالعت كتاب “نظام الزمان” لكريستوف بوميان وقد أشكل عليه تصنيف “التاريخ“: هل هو علم أم هو فن؟ فقال: “خلال زمن طويل جدا، اعتُبر التاريخ فنًّا، واعتبارا من القرن السابع عشر، بدأ العلماء بتشبيهه بالعلم”. والمشكلة في نظر المؤلف أنَّ قصَّ الأحداث لا ينطوي على ما هو علميٌّ، بل يكتسي صبغة أدبية، ويحيل في هذا الرأي إلى لاكومب في كتابه: “عن التاريخ بوصفه علما(Lacombe, Paul:De l’histoire considérée comme science).

والعجيب أنَّ بوميان في صفحة أخرى من كتابه أثنى على “علم تأريخ الشجر“؛ وهو يدَّعي أنَّ هذا العلم قلب رأسًا على عقب صور ما قبل التاريخ الأوروبي؛ وهو بهذا يثبت ما قاله جورج سارطون في كتابه “تاريخ العلوم“، من أنَّ “ذاكرة المؤرخين للعلم في أوروبا قصيرة جدًّا؛ وهي تعود إلى القرن السادس عشر ميلادي، ولا تتجاوزه”.

الثاني– في التراث الإسلامي العشرات من المؤلفات المستقلة، والآلاف من المقالات، وما لا يحصى من الفصول ضمن مصادر الفقه؛ جميعها تعالج موضوع القِبلة من مختلف الزوايا؛ الكثير منها ورد مصطلح القبلة في العنوان؛ نذكر منها للتمثيل: “رسالة في خط نصف النهار وسِمْت القبلة بالهندسة” للكندي، و”في سمت القبلة” للنيريزي، و”استخراج سمت القبلة” للكوهي، و”قول في سمت القبلة بالحساب” لابن الهيثم… أمَّا البيروني فقد أحصيت له ثمانية مؤلفات في “القبلة” ما بين كتاب ورسالة، وما بين ما هو نظري وما هو تطبيقي؛ منها: “معرفة سمت القبلة“، “إيضاح الأدلة على كيفية سمت القبلة“، “مقالة في تقويم القبلة في بُست بتصحيح طولها وعرضها().

ولقد صرَّح شمس الدين محمد بن محمد الحجازي (849هـ/1445م) بنسبة العلم إلى “الوقت والقبلة“، فعنون كتابه بـ”رسالة في علم الوقت والقبلة“؛ مما يرشح هذا المجال الواسع من العلم، والذي له مداخل كثيرة منها: الفقه، والتفسير، والحديث، والرياضيات، والفيزياء، والفلك، والآلات، والظلال، والمناظر… ومجمل هذه المداخل يمكنها أن تشكل “علما” جديرا بالاهتمام، وهو ما غاب عن قوائم المكتبات وتصنيف العلوم اليومَ.

وحين بحثت عن هذا العلم في وسائل التواصل، فاجأني علم بنفس الألفاظ والحروف أي “علم القبلة“، ورحت أبحث عن هذا العلم مهللا مستبشرا؛ لكنَّ خيبة الظن كانت حليفي، فالقاف جاءت بالرفع لا بالكسر؛ والعلم هو “علم القُبلة” أو “علم القُبل”، وتعريفه هكذا: “علم مختص بدراسة القُبَل يدعى “علم القُبل” أو “فيليماتولوجي“. ووجد الباحثون في هذا المجال على سبيل المثال “أنَّ ثلثي المقبّلين يميلون برؤوسهم إلى اليمين عند التقبيل، وأنَّ القُبلة في المعدل تستغرق أكثر من 12 ثانية في أيامنا هذه…” الخ.

وفي المصادر الغربية نقرأ أصل هذا العلم: philematologie، philematology وأصل الكلمة باللغة اليونانية، كما ذكرت القواميس، وكما دأبت عليه في المصطلحات العلمية غالبًا.

الثالث: عند قراءتي لأحدث ما ألفه العلماء في الغرب، من مقالات، وكتب؛ وسماعي لمحاضرات من علماء من مختلف التخصصات، بخاصة الفلسفة والفيزياء؛ من أمثال: ستيفين هاوكينغ، وإتيان كلان، وبرايان غرين، وبرنار بواسييه… وغيرهم؛ لا ريب أنني أستفيد كثيرا، بخاصة في طرح آخر الإشكالات التي تعالج في مختلف حقول المعرفة عبر العالم، مما له علاقة بالزمن والوقت. 

لكنَّ العجب أنَّهم جميعا متفقون في نقطة تجاوزت العلم إلى “الدوغما”، وهي: “محورية الغرب”، و”محو الشرق”؛ فلا تسمع اسما يذكر من الشرق الواسع، ولا يحال إلى عالم من الشرق الفسيح؛ وإنما كل ما ألف وأنجز واخترع لا بد أن يوجد له ممثل من الغرب؛ ومثال ذلك أنَّ ابن يونس (ت.399ه/1009م) لاحظ قانون الرقاص، واستخدمه لحساب الفترات الزمنية؛ إلاَّ أنَّ المراجع الغربية تنسبه إلى غاليليو (ت.1642م)، ذلك أنه وضع له الصيغة الرياضية؛ فعوض أن ينسب اختراع الرقاص لابن يونس وغاليليو مثلا، نسب في كل المصادر والمتاحف والموسوعات إلى غاليليو لوحده. ولعلَّ بعض الكتب والدارسات في تاريخ العلوم عند المسلمين تبقى نشازا، وتنفلت من القاعدة التي لا تكتسب صفة التعميم.

ويمكن أن نستثني من الكتَّاب الغربيين عددا من الباحثين في تاريخ العلوم، لكن يندر أن نجد ذلك في “العلم الرسمي” بتعبير توماس كوهن، أي في الموسوعات الرسمية، والمقررات الدراسية، والكتب المصدرية في ذات العلوم؛ ومن الأسماء التي يشار إلى جهودها في محاولة الإنصاف، بنسب متفاوتة نذكر: نللينو، وسارطون، وسيديو الأب والإبن، واسشوي، وروتر، وكراكوفسكي… وغيرهم.

ويبقى السؤال قائما: 

من يملك شرعية القول في وضع الأسماء للعلوم والنظريات، وللمفاهيم والمصطلحات؟ 

وهل المؤسسات الغربية في شتى مجالات الحياة، من المعرفة إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى الثقافة، ومن الفن إلى الرياضة.. هل هي “موضوعية”، “محايدة”، “بريئة”؟ 

أم أنها على شاكلة الحروب اليومَ؛ وعلى منوال تصنيف البشر عبر العالم، وعلى نموذج “الكوفيد” وما انجرَّ عليه من فضائح لا ينساها تاريخ البشرية؟ وعلى نمط الحرب الغربية-الغربية في أوكرانيا التي فضحت صدقية الـمعايير الدولية لعقود من الزمان؟

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *