يقول سير آرثر إدينجتون واصفا هذه المأساة الابستمولوجية: “إنَّ كلَّ ما يستعصي على شِباك العلم الحديث في العالم العضوي يعدُّ مهملا بلا هوادة، بحجة أنه لا موضوعي“.
ويعلق سيّد حسين نصر على هذا التشوه بصورة ذهنية جاء فيها: “يبدو الحال مشاكلا لجمهور من الصم يستمعون إلى كونشرتو ويشهدون أنهم لم يسمعوا شيئا واعتمدوا في تصفيقهم على القبول العام برهانا على الموضوعية” (الإسلام ووعثاء الإنسان الغربي)، (الشيخ علي يحيى معمر، ومقدمة آلهة من الحلوى).
والعلم في العصر الحديث ينزع نحو الكمّ ويبالغ في إنكار كل ما هو من الكيف؛ ولذلك يجعل من القياس أداته الوحيدة والمفضلة في الحكم على الشيء؛ ولا يُستثنى الزمن والوقت، ولا الزمان والمكان؛ بل والإنسان نفسه من هذه النزعة الكمية المغالية. يقول هونري بوانكاريه في كتابه “المكان والزمان”: “لا يمكن لما لا يقاس أن يكون موضوع علم”.
ويمكن أن نمثل لهذه الجدلية بين الكم والكيف، بوضع الوقت الذي تحاور فيه أمك موضع التحليل: هل تخضعه لاعتبارات كمية صارمة، وفق برنامج زمني محدَّد؟ وهل أساسا من الخلُق أن تنظر إلى ساعتك وهي تحادثك؟ وهل نسمي هذا “زمنا نفسيا”، أو “زمنا دينيا” بالاختزال المعهود؟ أم أنه يتجاوزه إلى أبعاد أخرى، تدخل فيها إرادة أخرى هي إرادة الله تعالى، ومقصد وغاية هي إرضاؤه سبحانه، ورجاء هو أن تكون من أهل الجنة…ولقد اعتدنا في العلم الوضعي/المادي أنه حين يلج الله تعالى قاعة الدرس يخرج العالـِم، ويحين يلج العالم القاعة يـُخرج الله سبحانه بالضرورة (ينظر- إبعاد الدين منشأ الأزمنة المهيمنة في الفكر الغربي، ضمن أطروحة أصول البرمجة).
ولقد أنجزت بحثا نموذجيا في “الزمن الكيفي”، حول مقاييس العبادات والمعاملات ومن بينها الأوقات، وبينت أنها جميعا تخضع إلى جوارح الإنسان، وأنَّ الآلة ليست شرطا في تحديد معيار أو مقياس أو زمن معين؛ وأنَّ جميع محاولات حمل الناس على الدقة الآلية المطلقة تفقد الشريعة روحها، وتنزع نحو التكليف بما لا يطاق. (وللكندي الفيلسوف بحث بعنوان “رسالة في أن رؤية الهلال لا تضبط بالتحقيق وإنما بالتقريب” لكنه مفقود للأسف الشديد).
وإذا كان التخصص يعني “التفتيت” و”التقسيم” هو نقيض للذكاء والانبثاق؛ فلقد امتدح التاريخ المعاصر التخصص في جميع المجالات، ابتداء من التايلورية في تقسيم العمل، وانتهاء بالباحثين والعلماء في جامعاتهم المتخصصة، ومراكز البحث المتخصصة… ولم يتوقف الأمر في هذه الحال بل تعداه إلى أن أصبح مثالا ونموذجا للتقدم والتطور، ونعت غيره بأنه تخلف وتقهقر.
ولم ينج الزمن والوقت من فعل “آلة التخصُّص” فتشرذم على يد كتَّاب أوفياء لما يكتبون لكنهم سطحيون، لا يعرفون من الحقيقة إلا زاوية منها بعدَ أن تكون قد أظلمت؛ ولا من الحياة إلاَّ عضوا قد فقد الحياة ليصير موضوعًا للدرس، ومادة للبحث…
وفي هذا المعنى يسجل رينيه غينون “غياب علم ذي طابع كمي يتعلق بالزمان، بنفس درجة الهندسة بالنسبة للمكان” (أزمة العالم الحديث).
أقول: ومن باب أولى، نسجل نحن ندرة علوم ذات طابع كيفي تتعلق بمجال بحثنا واهتمامنا: الزمن والوقت. بل ولقد كانت بعض هذه العلوم في القديم، ثم اغتيلت مع النهضة الكمية المعاصرة، حين أعلن عن الفصل بين “العلم والدين”، بين “العقل والنقل”، بين “الإنساني واللإنساني”، “بين المادة والروح” (وانظر- علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب. والمسيري: الموسوعة، وسيد حسين نصر: مثالات الإسلام وحقائقه).