في سورة من السور القصار، التي تشكل تصوُّر المسلم، وهي مما يدرسُه غالبا في العمر الصغير، نقرأ هذا القسَم البديع من الله تعالى: “والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا”.
العاديات جمع للعادي، ومؤنثه العادية؛ وهي الخيل الجاريات بسرعةٍ، وسميت بذلك لأنها تعدو.
أمَّا “ضبحا” فهو صوت الفرَس عند عدوِها وسرعتها؛ وقد فسره حبر الأمة ابن عباس بقوله: “أح ح”.
“أمَّا الموريات قدحا” فهي صورة لحوافر الخيل وهي تجري فوق الحجارة، فتوري النار باحتكاكها بها، ويقال قدح النارَ من الزند، أي أخرج النار منه.
ثم يكتمل مشهد هذه الخيل المباركة، بأن أقسم الله بها، وهي تغير على العدو وقت الصبح، فقال: “فالمغيرات صُبحا”؛ ولقد روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يُغير صباحاً ويستمع الأذان، فإن سمع أذاناً وإلاَّ أغار على عدوه وبغته.
ولا ريب أنَّ كلَّ إغارة على العدو، سواء أكان بالخيل أم بغيره، من مثل الطائرات، والدبابات، والسيارات… يجوز أن تكون مندرجة ضمن هذه الآيات؛ قال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: ” إنَّ الله جلَّ ثناؤه أقسم بالمغيرات صبحا، ولم يخصّص من ذلك مُغيرةً دون مغيرةٍ؛ فكلُّ مُغيرة صبحا، فداخلةٌ فيما أقسم به””.
وأنا أطالع “تفسير المنار” للشيخ رشيد رضا، تفسير قوله تعالى من سورة الأنفال: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخير…” الآيات؛ شدني هذا الحكم الفقهي، بخاصَّة أنَّ صورة الحرب الدائرة رحاها في شمال أوروبا بين روسيا والغرب تعنينا من قريب؛ وفيه يقول:
” ومن قواعد الأصول أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنصِّ القرآن صنعُ المدافع بأنواعها، والبنادق، والدبابات، والطيارات، والمناطيد، وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغواصات التي تغوص في البحر؛ ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب بدليل: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب” ثم يلحق هذا الواجب بالواجبات الحضارية التي أضاعها المسلمون اليوم لتخلفهم عن ركب الحضارة البشرية بأشواط.
*******
ومن أضربِ الإغارة – إضافة إلى القتال – محاربةُ الجهل، بالخروج صُبحا في طلب العلم النافع؛ ومحاربةُ الفقر، بالخروج بكورا للضرب في الأرض والسعي في زراعةٍ أو صناعةٍ أو تجارةٍ؛ وحمايةُ الأوطان، بالخروج فجرا إلى الثغور ومواطن حفظ الأمن والسلم… وغير ذلك كثيرٌ من أوجه الجهاد في سبيل الله تعالى، إضافةً إلى الجهاد القتالي للعدو المتربص.
والصبح في هذه الآيات، كما في غيرها من آيات القرآن الكريم، هو وقت مبارك؛ ينبغي على المسلم أن يستغله ويعمره بما ينفع من أمر الدين والدنيا؛ وتضييعه على الدوام تضييع لخير عميمٍ؛ وهو مما ابتليت به الأمة الإسلامية في عصورها المتأخرة، لأسباب حضارية تحتاج إلى معالجات عميقة، ولا ينفع في ذلك مجرد التخمين والقول الذي لا يستند إلى علم ودليل.
د. محمد باباعمي
—————————
ضمن دعوى تأسيس علم الزمن والوقت، من كتاب الفجر