كلمة اعتزاز وتقدير لجهود العلماء العاملين

كلمة اعتزاز وتقدير لجهود العلماء العاملين والباحثين المجدّين بمناسبة إطلاق “دعوى التأسيس لعلم جديد”

لقد سُعدنا بالدعوة الكريمة لحضور مناسبة علمية وُجهت لنا من عالمين عاملين فاضلين وباحثين قديرين مبدعين أصيلين، هما أ. جابر ناصر حجام القائم على إنتاج المعرفة بمعهد المناهج، و أ.د. محمد بابا عمي القائم على مشروع التأسيس لعلم جديد هو علم الزمن والوقت.ومن أصالة الفكرة والمشروع حرصُ العالمين المُجدّين على إدراج هذه المبادرة الطموحة في بوتقة التراث الفكري الإسلامي الأصيل، وضمن الحركية الهادفة لتفعيل آليات الحضارة الإنسانية في نسختها الإسلامية العربية بالعودة إلى العلماء الذين خاضوا في مسألة الزمن والوقت عبر التاريخ، بهدف التأسيس لهذا العلم الجديد الذي يشمل بطبيعته علوما مختلفة ويطال كل جوانب الحياة الإنسانية بما أن كل فكر وفعل إنساني يندرج بالضرورة في الزمن. ولعل جانب الاجتهاد والجدّة في هذه المقاربة تجاوزها للمنظور الأدبي أو الفلسفي التقليدي لمسألة الزمن والوقت إلى مقاربة منهجية تتوخى دقة المصطلحات، وتحديد المواضيع، والبحث عن المصادر، وذلك هو السبيل الوحيد للتأسيس لعلم جديد.
ويخبرنا تاريخ المجتمعات عموما وتاريخ المعرفة خصوصا بأن السعي إلى ابتكار العلوم الجديدة مؤشر واضح على انبعاث الأمم وتيقظها الفكري وتطلعها إلى الرقي. ولا يتصدى إلى مثل هذا المشروع إلا العالم الجريء المتشبع بروح المغامرة العلمية والتوّاق إلى الخروج من المسالك المعروفة إلى استكشاف الجديد المتخفي عن البصائر، وذلك هو السبيل إلى تطوير العلم وبناء الحضارة.ويذكرنا وصف المشروع بأنه تأسيس لعلم جديد بمبادرة كانت أوروبا مسرحا لها، وكان لها أثر بالغ في الرقي بالفكر التاريخي الأوربي خصوصا وبالعلوم الإنسانية عموما، وهي تأسيس المفكر الإيطالي جيامباتيستا فيكو (Giambattista Vico) (1668 – 1744 م) ما وصفه بالعلم الجديد في كتابه الذي وضع له عنوان “مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم” (1725 م). وكذلك نرى مبادرة العالمين باباعمي وبوحجام بأسلوبها ومراميها ونظرتها للزمن، فهي عمل تأسيسي ومبادرة لتأصيل المعرفة في مجتمعنا الجزائري ومن ورائه الفضاء العربي الإسلامي الواسع. فبمثل هذه المبادرات تُوطّن أصناف المعرفة وعلى رأسها معرفة الزمن والوعي به كوسيلة لكسر قيود وأثقال انعدام الفاعلية في حياتنا وللانطلاق إلى بناء الجديد في ذاتنا الحضارية وإحياء وترميم ما تأثّر من تراثنا بعوادي الزمن وضمور العقول وتخاذل الضمائر.
حقا إن واقعنا اليوم ببعده عن الإسهام الحضاري الفعّال يفرض على النخب المتنورة الواعية بذاتها إعادة استقراء مضمون التراث العربي الإسلامي، خاصة في نسخته المغاربية المتميّزة بخصوصيتها التاريخية والجغرافية. ولعل هذا العمل الفكري على الذات يجعلنا نتجاوز ما نلمسه من قسوة في السلوك الاجتماعي، وعدوانية في التعامل، وحسد في النفوس، وشحّ في العطاء، وما ينجر عن ذلك من غياب تفعيل الطاقات الذاتية والبعد عن التفكير العلمي المجدّد المبدع والذي يدفعنا إلى هوامش الإسهام الحضاري الإنساني المعاصر. ومن المعضلات المجتمعية القائمة والتي تمثل عوائق بقدر ما هي دوافع ومنطلقات لتحقيق النهضة إذا نجحنا في التعامل معها واستجبنا لمتطلباتها، ثلاث معضلات، هي: مسألة السلطة والتعاطي مع قضية الحكم وتسيير الشؤون العامة؛ ومسألة البيئة والمجال بشقيه الطبيعي والمبني باعتباره حيّز وجودنا المادي؛ ومعضلة الزمن والوقت التي نظنها الأكثر إلحاحا وتأثيرا في سيرورة المجتمع، إذ كاد اهتمامنا بمسألة الوقت ينحصر في تحديد مواقيت الصلاة والصيام، وغاب بعد الزمن والوقت الذي يشكل أهم عناصر الوجود عن عملنا ونشاطنا وضبط أمور حياتنا، فلا نحسن استغلاله بل نهدره هدرا حتى انمحت معالم الطريق القويم من وجودنا، وغاب الانضباط عن سلوكنا وتعاطينا مع متطلبات الحياة اليومية أفرادا ومجتمعا.
إن هذه المبادرة للتأسيس لعلم الزمن والوقت تضعنا أمام تحدي الدورة الحضارية القائمة على تطوير المعرفة وتفعيل علم المناهج في حياتنا والذي نعجز دونه عن التنظيم الصحيح لسلسلة أفكارنا وإنجازاتنا وعن ضبط خططنا ومشاريعنا. فلا تقدم بدون امتلاك تقنيات استعمال الوقت وتفعيل عامل الزمن في حياتنا حتى يكتسب نشاطنا بعده الإنساني وإسهامه الحضاري.إن منهج البحث في مسألة الزمن والوقت أساسه استيعاب مسار الفعل الإنساني منذ فجر الخليقة، وسيظل كذلك حتى نهاية الكون لأنه بمثابة حصيلة الجهد البشري في كل زمان ومكان. وقد كان التحكم في الزمن والوقت حلما راود البشرية في محاولتها الإمساك بروح الحياة وكنه الوجود وسعيها لاستشراف المستقبل من خلال الذاكرة التاريخية واستحضار الماضي بتتبع آثاره وتلمس انعكاساته.

إن لغز الوجود كامن في علاقة الإنسان بالزمن، تلك المادة غير المرئية الصمّاء، البلسم والمُنبّه الذي يذكر الإنسان في كل لحظة تمر بقيمة الوقت، كما عبّر عن ذلك قول شوقي:دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني
إن توطين دراسة مناهج الزمن والوقت عمل جسيم ككل عمل تأسيسي خاصة إذا كان علما جديدا (علم الزمن والوقت)، فهو يتطلب النقد والتحليل والتركيب والتقييم لكونه عملية فكرية مركبة ومنظمة تجعلنا ننظر إلى الماضي بعين جديدة، ونتطلع إلى المستقبل بضمير واع، ونواجه الواقع ببصيرة تؤسس لنهضة اجتماعية وتيقظ ثقافي ووعي حضاري، لتنتظم حياتنا ويستقيم سلوكنا وترتقي معارفنا، وتزداد فاعليتنا في مجتمعنا، كما كان شأن أسلافنا في المجتمعات الإسلامية في فترة رقيها وإسهامها الحضاري.إن البعد المنهجي في علم الزمن والوقت يضفي عليه قيمة علمية أكيدة، فالمناهج تطور المهارات الخاصة وتثري المعارف العامة، وهذا ما يتفق عليه الفلاسفة والمفكرون، فها هو فرانسيس بيكون (1561 – 1626 م) يعتبر أن علم المناهج هو الوعي بالطاقة الكامنة في المعرفة استقراءً واستنتاجا وافتراضا، انطلاقا من الملاحظة والدراسة والتجربة؛ وهذا أوغست كونت (1798 – 1857 م) يربط بين المناهج الجديدة للعلم وتطور العقل البشري، فهي محاولة لتفسير الظواهر العلمية تفسيرا علميا انطلاقا من النظريات والمبادئ القاعدية القابلة للتطبيق الميداني.

إن وضع مناهج للبحث في علم الزمن والوقت منطلق لمشروع أكاديمي واعد لتوطين المعرفة، وآلية راقية للدراسة والتحليل والتفسير، ووسيلة فعّالة لاكتساب مهارة الإبداع الأصيل والإنتاج المفيد الذي يغير الواقع، ويكسب الحضارة فاعليتها، ويؤسس لنهضة علمية وإشعاع معرفي يبتعد عن الأطروحات الفكرية الغربية، والتخيّلات الساذجة المجانبة للحقيقة، والأنماط التقليدية الجامدة.
فبورك للقائمين على هذا المشروع الواعد، وسدّد الله خطاهم في عملهم الحضاري التأسيسي المُجدد.

ناصر الدين سعيدوني ومعاوية سعيدوني(الأربعاء 24 شوال 1443ه/25 ماي 2022م)

عن ناصر الدين ومعاوية سعيدوني

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 06

لا ريب أنَّ كلام الله تعالى – فيما سوى القطعيات – قابلٌ لأن يُفهم بتولُّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *