وبالأسحار هم يستغفرون (ضريبة التخلف، وتكلفة الحضارة)

يصف الله تعالى المتقين في سورة الذاريات، ويبين مصيرهم السعيد إلى جنات النعيم، ثم يشيد بما عملوه لينالوا هذا المقام الكريم؛ فيقول: “كانوا قليلا من الليل ما يَهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون”؛ وفي آية أخرى من سورة آل عمران، ينوِّه سبحانه بالذين اتَّقوا من عباده بأنهم كانوا في الدنيا مِن “المستغفرين بالأسحار”.

يشملُ الاستغفار الصلاةَ وغيرَها، وإن كان الاستغفار في صلاةٍ فهو أحسن، ولقد ورد في الحديث الشريف أنها ساعة الاستجابة، قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله ينزل كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقولُ: هل من تائب فأتوبُ عليه؟ هل من مستغفر فأغفرُ له؟ هل من سائل فيعطى سؤلَه؟ حتى يطلع الفجر”.

ولئن كان هذا الوقت بهذا القدر من الأجر والمثوبة، فلِمَ يغفل الناس عنه عادةً؟ ولـمَ يقلُّ من الناس من يغادر فراشه في وقت السحَر، ليلوذ إلى ربه، فيسأله حاجته، ويستغفره من ذنبه، ويتوب له عما بدر منه من قبل ومما سيبدر منه من بعد؟

لا ريب أنَّ نظام الحياة الذي فُرض على الناسِ في القرون المتأخرة، هو نظامٌ مستورَد غير أصيل، هو نظام تايلوريٌّ وليس محمديًّا، مستمدٌّ من التشريع الأوروبي وليس من الوحي الرباني؛ لقد جاء مع الاستعمار غالبًا، ومع حملات نابليون بدايةً من مصرَ؛ إذ كانت الشعوبُ الإسلامية قبل ذلك تعيش على إيقاع الزمن الطبيعيِّ، ولم تكن “الآلةُ” ولا “العمل اليومي” المحدد بالساعات، ولا برنامج المدارس والإدارات… لم يكن كلُّ ذلك مما ألِف الناس، ولا مما اعتادوا عليه؛ غير أنهم كذلك لم يكونوا في مستوى حضاريٍّ يمكّنهم من “فحص” البرنامج الزمني الوافد إليهم مِن الغربِ، ليستفيدوا من إيجابياته، ويذروا سلبياته؛ بل لم يكن للأمَّة – وهي في حال التخلُّف – مقترحات بديلة، وإنما كانت الخصوصيات الرتيبة هي القاهرة.

ينبه مالك بن نبي إلى أنَّ الأمَّة الإسلامية قبل قرنين من الزمان كانت على سُباتٍ عميقٍ، تنتظر مَن يوقظها، فجاء الاستعمارُ فأيقظها من نومِها، لكنْ على صوتِ القنابل والرصاص والدَّمار؛ لقد كان إيقاظاً قسريًّا، أشبه ما يكون بالتيه منه باليقظة؛ ومن يومِها والعالم الإسلامي يبحث عن البوصلة التي يُعيد بها ترتيب بيته من الداخل، واستعادة مكانته بين الأمم؛ غير أنَّ الأمر لم يتمَّ له بعدُ؛ ولا تبدو أماراتٌ في الأفق تبشّر بغدٍ أحسن وأمثل؛ فالحاجة ماسَّة إلى اجتهادٍ وجهادٍ، بلا تهور ولا استعجال.

ولعلَّ استعادةَ قيمة السحر فرديًّا ثم جماعيًّا خطوةٌ من بين الخطوات التي تُسهم في زرع البركة في برنامجنا اليومي؛ والنهرُ قطراتٌ تجمعت ثم سالت وساحت؛ فإذا بارك الله فيها سقَت الزرع، وأروت الضرع، ثم أحيت البلاد والعباد…

د. محمد باباعمي

———————————————-

ضمن كتاب طور التأليف عن “الفجر والبكور” بين منطلقات الوحي، وإكراهات الواقع، وضريبة التبعية والولع.

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/
الغرب والآخَر (هل يحقُّ للشرق أن يؤسّس علماً)

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *