كنتُ قد سجَّلت ملاحظةً مفادُها أنَّ كلَّ من مارس التفكير أو الكتابة بعمق في “الزمن والوقت” لا بدَّ وأن يوظّف المجاز منهجا، وأن يستعين بالصور الإدراكية، وبالتمثّلات… ومثال ذلك ابن سينا وذروتُه ابن عربي، وعند المتأخرين من المفكرين نسجل ما كتبه مالك بن نبي في “شروط النهضة” عن “نهر الزمن”؛ ومن قبله محمد إقبال في “تجديد الفكر الديني” في الفصل المعنون بـ”مفهوم الألوهية ومعنى الصلاة”… وغيرهم كثير.
إلى أن قرأت ما يؤكد هذه الملاحظة في كتاب صدرت ترجمته قبل عامين، للباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، بعنوان “مفهوم الوجود وحقيقته”، ومما جاء تحت عنوان “دراسة البنية الأساسية للتفكير الميتافيزيقي في الإسلام”، ضمن تحليله لفلسفة الوجود عند ابن عربي والـمُلَّا صدْرا، يقول: “أشيرُ إلى أنَّ الفلاسفة المسلمين يميلون إلى استعمال التمثُّلات والتشبيهات في الميتافيزيقا، بخاصَّة في إيضاح الصلة المتناقضة في الظاهر بين الوَحدة والكثرة، أو الحقيقة المطلقة وأشياء الظاهر… ولا ينبغي أن يُفهم هذا الاستعمال على أنه مجرد محسّن شعريٍّ، بل المجاز يحدِّد الوظيفة الإدراكية على نحو واضح” (بتصرف)
ثم يقرر أنَّ “المجاز في المستوى العالي الميتافيزيقي هو اكتشاف لدى المسلمين، وهي طريقة في التفكير، ومنهج في الإدراك“. ولو تنبَّه وتعمَّق لسجَّل أنَّ هذا المنهج أصوله من كتاب الله تعالى، ومن سنة المصطفى عليه السلام.
جريا على هذه الطريقة البديعة، واتباعا لهذا المنهج الأصيل؛ أورد هذه الفقرة عن الصحابي الجليل سليمان الفارسي رضي الله عنه (روزبة) في رحلته الخالدة من عالم عبدة النار إلى جوار النبيء (نقطة الجمع) صلى الله عليه وسلم. حتى قال عنه عليه السلام: “مَن لكم بمثل لقمان الحكيم، علِم العلم الأوَّل والعلم الآخِر، وقرأ الكتاب الأوَّل والكتاب الآخِر، وكان بحراً لا ينزَف!”:
“مشى الأسقف يوحنا الحرموني في صومعته بدمشق عدَّة خطوات، وسرَّح بتأملاته في البعيد، وأسند رأسه إلى النافذة المطلة على التضاريس القاسية، وغمغم معبرا: إنَّ شغلي الشاغل منذ ستين عامًا أن أدرك نقطة تلاقي الزمان باللازمان، واللحظة الدنيوية المعتمة بلحظة الإشراق الرائعة. فهناك يا روزبة نظامان: نظام طبيعي نسميه العالـَم، ونظام إلهيٌّ هو نظام الأزل. والنظامان يتقاطعان في لحظة الإشراق العجيبة. فالمتأملون الصوفيون، والأنبياء المرسلون، والأبدال الزاهدون… وأمثالهم، هم الذين يحسُّون بمستوى الزمان ومستوى الأزل. وقد خصَّ الله أنبياءه بقدرة النقلة الأزلية والتعرُّج على السماوات، لحمل الرسالات إلى البشر والمقصِّرين عن استيعاب الألوهية الكائنة خلف هذا العالم، وفي تجلياتها المستترة فيه. أمَّا عن بزوغ نبي يولَد، ويترعرع في قفر الصحاري، فقد استقر في كتبنا أنَّ اسمه أحمد، وقد اقترب أوان قدومه كما أعتقِد. فاذهب الآن إلى صومعتك الخاصة، وانتظر ما يجيء به الغيب… فكلُّ ما في الكون وكل الأشياء راكعة هناك تنتظر ميلاد نبي جديد يحمل خبر السماء إلى الأرض الملُوعة، ويبشر بأن اللقاء بين برازخ الزمان واللازمان أضحى قريبا” (النداء الأزلي).
ومن هذا المنظار نفهم وصف الله تعالى لرسوله الكريم في مستهل سورة النجم بقوله جلا جلاله: “والنَّجم إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحيٌ يُوحى، علَّمه شديد القوى“.
وبهذا الـمُجهِر نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته الشهيرة بحجة الوداع: “إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم…” (الحديث متفق عليه).