سؤال عن دور السكون في نجاعة الحركة

(مقتطف من مذكراتي)

كتبت في مذكراتي هذا السؤال، أنقله إلى القارئ كما هو:

“ما هو المنطق الذي به يفعل الأنبياء أمورا تبدو “مضيعةً للوقت” في مسيرة الرسالة، أو يقعون في ظروفٍ يظهر منها أنهم لا يبرحون مكانهم؛ لكنها في الحقيقة تعبّر عن مكنون خفي من المعنى، قد لا ندركه، وقد لا نحصيه:

– سيدنا نوح عليه السلام لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، ثم ما آمن معه إلاَّ قليل؛ لماذا كل هذا الزمن الطويل؟

– سيدنا يوسف عليه السلام لبث في السجن بضع سنين، ثم انتقل إلى خزائن الأرض قائما عليها؛ أليست البضع من السنين من قبيل الزمن الضائع في عمر النبي الكريم؟

– سيدنا موسى عليه السلام آجرَ نفسه ثماني سنين لرعي الغنم، وأتمها عشرا، قبل أن يذهب إلى فرعون وملئه ويواجههم. أليست هي سنون ضائعة في منطق الناس؟

– سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم انتظر أربعين عاما لتحمُّل النبوَّة، وكان متأمّلا وحيدًا، راعيا للغنم أحيانا؛ ثم لم يعِش بعدها سوى ثلاثا وعشرين عامًا، أليس في هذا نوع ضياعٍ للعمر؟

وقس على ذلك الكثير من الصحابة، ومن العلماء الأعلام… ولعلنا نذكر مثالا لذلك، المفكر علي عزت بيجوفيتش، والسنوات التي قضاها في السجن، قبل أن يتولى رئاسة بلده؛ ألم يكن ممكنا أن لا تضيع؟

ثم، ألم يكن في الإمكان أن يحقق جميع هؤلاء الرواد غايتهم ورسالتهم بغير هذه المعيقات؟

فما دور السكون إذن في نجاعة الحركة، لمن آمن وعلم ثم عمل؟

كيف نفهم هذا البعد العميق في حياتنا اليومَ، ونحن ندبُّ في الحياة مسرعين عجلين غافلين، لا نلوي على أحد؟

ألم يطل الزمان من يوم استقلَّت الجزائر عن فرنسا، وإنساننا في وطننا، هو هو، تابع خانع خاضعٌ، لم يشبَّ بعد عن الطوق، ولم ينتقل من الحبو إلى السير برجليه بلا حاجة إلى الآخرين، فهو لا يتحرك إلى الأمام خطوتين، إلا ويتولى إلى الوراء خطوات؟

ما الحكمة من كل ذلك؟

وأنى لنا أن نستوعبها؟

كيف نحقق الفهم الصحيح، ونحن نحمد الله سبحانه، ونؤمن أنَّ قدر الله حكيم، وأنَّ ما يأتي منه سبحانه هو الحق، وهو العدل، وهو الحكمة بعينها؟

هل كل هذا الزمن الضائع في تاريخ أمتنا ووطننا من قبيل “الزمن المبارك” لدى الأنبياء، وهو من عند الله تعالى؟

أم أنه “من عندنا”، أي أنه حقا زمن ضائعٌ، ولا سبيل إلى تبريره؟

أنا لا أميل إلى استعجال الحكم، ولكن أدفع إلى طول النظر والتأمل؛ فالرأي الصواب ثمرة “وقت طويل”، وليس عصارة “استعجال وعجلة”.

لا ريب أنَّ من السكون ما هو حركة، وأن من الحركة ما هو سكون؛ والعبرة “بحقيقة الأمر”، و”بالخواتيم”… أليس الذكرُ سكوناً في الظاهر، وهو الدافع للحركة في حقيقة الأمر؟

أليس التفكير سكونا عند الناس، ولكنه أصل كل حركة؟

ألم يقل الله تعالى عن الجبال الرواسي، التي تبدو ساكنة: “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرَّ السحاب؟”

 فاللهم نسألك حسن الخاتمة في الأمور كلها.

د. محمد باباعمي

عن د. محمد باباعمي

د. محمد باباعمي، باحث جزائري حاصل على دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان، سنة 2003م، بموضوع: "أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي"، وحصل على الماجستير في نفس التخصص سنة 1997 بموضوع: "مفهوم الزمن في القرآن الكريم"، وعلى دبلوم الدراسات المعمقة في العقيدة والفكر الإسلامي، سنة 1994م، بموضوع: "مراعاة الظروف الزمنية والمكانية، والأحوال النفسية، في تفسير الآية القرآنية". صاحب الدعوى العلمية لتأسيس "علم الزمن والوقت"، بإشراك ثلة من الباحثين والأساتذة. للاطلاع على السيرة الذاتية التفصيلية: https://timescience.net/2021/11/13/%d8%a8%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b3%d9%89-%d8%b3%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%a9/

شاهد أيضاً

في وعي الإنسان بالوقت :: 04

النومُ آيةٌ من آيات الله ﷻ، لا يدركها إلاَّ من يتفكَّر ويُعمل عقلَه؛ أمَّا الغافل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *