(الذين قال لهم الناس: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)
الزمن عند العقلاء ثلاثٌ: ماضٍ قد فات، وغدٌ هو آت، وحاضرٌ وجبَ العمل فيه قبل الفوات…
كثُر التخويف من الزمن الذي يستقبلنا: من قبلُ كان الترهيب من امتداد الوباء (الكورورنا) إلى غير آخرٍ، وقبل ذلك بعامٍ كان وضع الجزائر هو المجهول “وما له مِن آخر”، واليومَ مع الحرب الغربية-الغربية (في أكرانيا) أصبحنا نخوَّف بأعوامٍ عجافٍ، وبأيام ستحرق أرواحنا قبل أجسادنا، ولقد بدأت باللحاف… إن لم يكن اليوم، فغداً.
تملَّك الناسَ الفزعُ والذعرُ، فلا تكاد تسمع من الواحد منهم، سوى علامات الشؤم، وعبارات الحزن، وأمارات الهلاك… وإن حاولتَ عبثا التخفيف من الهستيريا، رُميتَ بكل داءٍ وخبال: من جهل، وجنون، وتخلف، وغرور…
أدعياءُ هذا المذهب همُ المتحكّمون عبر العالم، من خلال السياسة، والحروب، والاقتصاد، ووسائل التواصل، والإعلام… ولقد صار البعض منهم يدَّعي النبوَّة، ثم يـُحسبُ لما يخيف به العالَم ألفُ حساب، ثم ينشرُ دينُه في الإعلام الدولي والمحلي بخطوط عريضةٍ، وصور مرعبةٍ غريضةٍ… ولو شئتُ لسميتُ.
لكن، لهؤلاء الأدعياء ممثلون في كل بلد من البلاد، وفي كل مدينة، وفي كل قرية، وفي كل حيٍّ، وأحيانا في كل بيتٍ، وبكل اللغات والأعراق والأديان… لهؤلاء الأفاكين أبواقٌ تردّد ما يقولون بوعي أو بغير وعي، وتتبع سيرتهم حذو النعل بالنعل، ولكأنَّ الآية القرآنية تعنيهم في قوله سبحانه: “وفيكم سماعون لهم” أي عيونٌ لهم فيكم وأبواق لهم فيكم.
والرائع ما جاء قبل هذا الوصف، من قوله تعالى: “يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم”…
*******
المحقَّق عندي أنَّ المستقبل لا يُرجى ولا يـُخاف؛ وإنما يخطَّط له، ويحضَّر له، وتتخذ الأسباب لأجله؛ فالذي يجب أن نركز عليه هو: حقيقة أمرنا كيف نفهما، حاضرُنا كيف نديره وكيف نتصرَّف فيه: أنفسنا، بيوتنا، مدارسنا، متاجرنا، وزاراتنا، محاكمنا، مزارعنا… الخ.
المستقبلُ ليس سحرا ولا شعوذة، وإنما هو ثمرة للحاضر؛ كما أنَّ الحاضر نتيجة للماضي؛ فإن نعمل خيرا نجد خيرا؛ وإن نعمل شرا نجد شرا؛ والجنون انتظار نتيجة سحرية لسبب غير ملائم لتلك النتيجة.
ثم الذي يجب أن يحدثه الحراك العالمي اليومَ فينا، هو أن نستفيق من غفلاتنا وهي كثيرةٌ، ونصحح أخطاءنا وهي خطيرةٌ، ونراجع مواقفنا ووقفاتنا وهي للأسف حقيرةٌ… ومع كل ذلك علينا أن لا نفقد الأمل، ولا الرجاء، ولا الثقة في الله حتى ولو استحال العالَم من حولنا رمادا، وانتهى أخضرنا ويابسنا سمادا، وصار الناس من حولنا سوادا…
انتهى الوباء أو كاد، والحياة مستمرَّة، ولقد نسيه الناس أو كادوا… ولقد قال لي طبيب يومَ كان الوباء في أوجه: “إني أخاف أن يَبيد الناس في حيّنا جميعًا، ولا يبقى حيًّا منهم أحد”. ولقد كان الواجب عليه حينها، وهو الرائد في مجالِه، أن يُطمئن الناسَ حتى ولو كان مصيرهم الهلاكُ ولا ريب، وأن يحتمل لهم النجاة، ولو على حافة الهاوية.
ثم إنَّ المتصرف الأوَّل والآخر هو الله سبحانه؛ ولا نعتقد برهةً أنَّ الأمور تنفلت من إرادته ومن حكمته؛ وهو صاحب الأمر والنهي، المميت المحيي، الباسط القابض، النافع الضار… فإذا ما توجهنا إليه كان لنا ومعنا، وإذا ما أدرنا ظهورنا له فإنَّ هلاكنا يكون من صنع أيدينا: “وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”.
*******
ترك سلمان الفارسي (روزبة) قصورَ والده في بلاد فارس، وانتهى عبدا عند امرأة يهودية في الطائف، وهو يبحث عن الحقيقة، ويستجيب لنداء الإيمان في ضميره؛ حتى حرره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان الصحابة الكرام كلٌّ يقربه منه ليُنسب إليه، ففصل رسول الله في الأمر وقال: “سلمان منا آل البيت”..
ثم كان سلمان الخير المددَ والسند التكنولوجي للمسلمين في معارك وغزوات كثيرة: الأحزاب والخندق، حنين والمنجنيق والدبابات، القادسية وقطع دجلة… ثم ولي المدائن، وكان أميرها؛ لكنه لم يسكن القصور، وأكل من عمل يده، ولازم الذكر والعبادة في كل حين…
ولذا، فعوض أن نترك الخوف يدبُّ إلى أوصالنا، علينا أن نأخذ بأيدينا زمام الأمور، باتخاذ الأسباب القريبة والبعيدة: الإيمان والعمل الصالح؛ العمل إلى جنب العلم، التخطيط مع الدعاء… لا فصل، بل وصل؛ والسؤال الصواب ليس: “ماذا يحمل المستقبل لنا؟”، بل هو: “ماذا نحمل نحن للمستقبل؟”…
والآية التي تلخص كل هذه المعاني قوله تعالى ممتدحا المؤمنين، سائلين الله أن يجعلنا منهم:
“الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم؛ فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل”…
حسبنا الله ونعم الوكيل…
حسبنا الله ونعم الوكيل…
محمد باباعمي، 29 رمضان 1443ه
برج البحري، الجزائر